يُقال أن هنالك شعرة رفيعة تفصل ما بين الايمان و الالحاد ، و أنّ الانسان كلّما تعمق في الايمان من منظور الشكّ كلّما انفصل نحو عدم اليقين أو سلك طريق الالحاد ، فنستخلص مما يقال أن المنطق و السوَية مطلوبة ، بحيث لا يميل الانسان كثيرا نحو أي شيء...مهما كان حسنًا.
و بذات المنوال ، هنالك شعرة تفصل ما بين الوطنية و العنصرية ، فالوطنية بدون اكاديميات أو مصطلحات تعقيدية ، هي نصرة الانسان لوطنه في كل الظروف ، اخلاصه له ، وفاءه لترابه ، ولاءه لقيادته ، خصوصا عندما تكون القيادة وسطية حكيمة لم تتطلخ أيديها بدماء الشعوب ، أو قهرها و تعذيبها.
أمّا العنصرية ، فهي الخوض أكثر في الوطنية بشكل مبالغ أو على النقيض العكس تماما بطريقة هدامية ، بحيث قد يمارس الشخص عنصرية ضد شخص آخر بسبب حبّه لبلده أو العكس بسبب كرهه لها ، لذلك دائما المبالغة في أي سلوك أو مشاعر قد تحرف بوصلة الانسان نحو الممارسات السيئة.
في قضية فلسطين و غزة ، هذه الشعرة يجب أن تبقى ثابتة من القاعدة للرأس لكن للأسف بعض من قيادات هذه القضية منذ نشأتها ساهموا بشكل أو بآخر في زحزحتها ، فبالقدر الذي يسترسل فيه الفلسطيني دفاعا عن قضيته من دول اخرى ، بالقدر الذي يجعل الناس تختار العنصرية دون وعي و تخلخل ركائز التعاطف أو الدعم.
لذلك ، على القيادات الفلسطينية ترسيخ فكرة المقاومة داخل الأرض المحتلة لا تصدير المقاومة سلمية أو حتى عسكرية ، خصوصا أنّنا في عالم اليوم كبشر متحضّرين محكومون بقوانين و انظمة عالمية موقّعة من جميع الدول تقريبا ، فأيّ ممارسات قد تخلّف نتائج اقصائية و من ثم عدائية ، أو حتى عقوبات مرهقة.
قد يقول قائل ، و لماذا لا تخضع اسرائيل لهذه القوانين ، و هنا تتداخل الافكار أو الاعذار حتى ، فالبعض يلوم حماس لتقديمها " السابع من اكتوبر" كعذر على طبق ذهبيّ لاسرائيل و البعض الآخر يقول ، ردّة الفعل تفوق الفعل ملايين المرّات.
مهما كانت الافكار و صحّتها من أي منظور ، يبقى تصدير المقاومة أو في العقود الماضية تصدير الثورة ، من اسوأ الممارسات التي قد تخلط أوراق أي قضية و أحيانا تفقدها الهالة الشرعية ، بحيث تنتقل من قضية ظلم لقضية مظلوم يَظلم ، أو محتاج يحتل.
فكيف تُدعم المقاومة؟
يتغيّر الجواب وفق كل دولة ، مكانتها ، تفاصيلها ، حساسياتها ، و قدرتها على التعاطي مع الملفات ، فمثلا ، صمود مصر و الاردن ، يدعم المقاومة و العكس صحيح ، فبالقدر الذي يسود به الاستقرار القاهرة و عمّان بالقدر الذي يضمن به المجتمع الدولي عدم تصدير الفوضى لهما ، فماذا أفضل من فوضى في كل من هذه الدول تجعل اسرائيل ترحّل إليهما ما تشاء ، أو تجعل ايران تركض لغزو ساحاتهما؟
أما الأردن على وجه الخصوص ، فهي الممر الذي يستطيع تغذية حاضنة المقاومة و اساسها الشعبي ، فلطالما ساهمت الاردن في رفد الشعب الفلسطيني في غزة بحاجاته الاساسية من غذاء و دواء و علاج ، هذا الدعم الذي يجب أن يتوفر من حماس بشكل أساسي حملته الاردن على أكتافها كواجب لا هِبة ، و كشعور حقيقي غير مزيّف.
في السابق ، عندما فُهم الاحتضان الأردني للفصائل الفلسطينية خاطئا و تلقّفتها هذه القيادات بشكل خاطئ ، ذهبت القضية إلى منعطف قاتل محليا ، من قضية يجب التعاطف معها إلى قضية يجب ابعادها و ازاحتها أو حتى تحجميها ، ليس كقضية بشكل واقعي بقدر ما هو الحال مع ممثّلوها ، فتلاشت الممارسات و بقي دعمها إلى اليوم ثابتا راسخا .
و من الاخطاء الكارثية أيضا هي وقوف قيادات هذه القضية مع صدام حسين خلال حرب الكويت ، فكيف يستطيع شخص يطالب بأن يُسمع له و يُنصرْ أن يقف مع ظالم و محتل على الجهة المقابلة؟
لذلك تضيع أحيانا المشاعر الفردية بين الوطنية و العنصرية ، كيف أدعم وطني و لا أقف ضد القضية ، أو حتى كيف أدعم القضية بحيث لا أضرّ وطني؟
خصوصا مؤخرا ، مع تزايد التوتر و الكهرباء السياسية ما بين الأردن و حماس و الاخوان ، يشعر الاردني الناصر لوطنه أنّه يخذل القضية ، أو على النقيض يشعر الذي يدعم حماس أنّه يناقض معايير الوطنية ، هذه الشعرة التي يجب أن لا تتبخّر ، بحيث يعدل الانسان بين وطنه...منتهى الانتماء و نهاية الولاء ، و بين التعاطف المنطقي البعيد عن أي ممارسات مجرّمة...فليس كل من يعلن دعمه فلسطين يكون حسن النوايا.