التأهيل السياحي للمواقع الأثرية
أ.د سلطان المعاني
25-04-2025 09:47 AM
يُشكّل تأهيل المواقع الأثرية والتراثية في الأردن ضرورة حضارية تتجاوز مفهوم الترميم المادي لتلامس صميم الهوية الثقافية للأمة.
ويعني التأهيل هنا إحياء الذاكرة، وإعادة تشكيل العلاقة بين الإنسان والمكان، بحيث يتحول الموقع الأثري من أطلال صامتة إلى سرد حيّ يحكي فصولًا من التاريخ الإنساني المتنوع.
وينبغي النظر إلى هذه المواقع بوصفها معالم سياحية، واعتبارها شواهد حضارية تحمل في تفاصيلها إرثًا ممتدًا من عمق الزمان.
فالكهوف، والكنائس، والقصور، والمدن المنسية في بطن الصحراء أو على قمم الجبال، وفي مدن المملكة وقراها مخازن للمعنى، ومرايا تعكس تفاعل الإنسان مع الطبيعة، وتواصله مع الخلود. ومن هنا، يتخذ المكان بعدًا رمزيًا يتجاوز جغرافيته، ليغدو كيانًا ثقافيًا يُستعاد به الإنسان، وتتجدد من خلاله حيوات مضت.
ولا يقف التأهيل عند حدود الصيانة الإنشائية، وإنما يتطلب بنية تحتية وفوقية تحفظ أصالة المكان دون أن تجرده من روحه، وهو ما يفرض توازنًا دقيقًا بين الحماية والتحديث، بين التوثيق والتوظيف. فلا يمكن للموقع أن يعيش إلا إذا استعاد جمهوره، ولا جمهور دون طريق وخدمة وسياق ثقافي يرافق التجربة ويضفي عليها معانيها. وفي هذا السياق، تأتي وزارة السياحة والآثار الأردنية كفاعل واعٍ لهذه الضرورة، كمبتدأ للخطاب، ومختتم. ويُحسب لها أنها شرعت بخطوات أولى في تعظيم عدد المواقع المؤهلة سياحيًا، وهو عددٌ تجاوز 54 موقعًا، في مسعى نحو توسيع دائرة الجذب السياحي وإعادة الاعتبار لأماكن ظلت لسنوات طويلة خارج مسارات الضوء والاهتمام. غير أن الطموح أكبر، والحلم أبعد، إذ أن خارطة الأردن الأثرية لا تزال حبلى بكنوز تنتظر فرصة الانبعاث، وأحسب أن الرؤية والفعل والقرار عوامل اطمئنان إلى أن الأمر سيشهد قريبا مزيدا من التأهيل لمواقع أخرى جديدة.
ويستلزم هذا الطموح تظافر الجهود، بين المؤسسات ذات العلاقة، لتعظيم الوضع السياحي الرافد لتدفق سياحي نوعي، وتحريك لعجلة الاقتصاد، مراجعة الخرائط السياحية التقليدية، ففي الأطراف والهضاب وأعماق البوادي تاريخًا عظيما. والمؤمل الانتشار وعدم التمركز، وتوزيع الرؤية على امتداد الجغرافيا الأردنية، بما يضمن عدالة ثقافية ومجتمعية في سرد الذاكرة وإحياء المكان.
ويُعاد تأهيل الموقع إذا ما أُعيد تأهيل الوعي الذي يستحضره، والخطاب الذي يروّجه، والعلاقة الذاتية التي تقيمها الجماعة معه. فتأهيل الموقع هو في جوهره تأهيل للوعي، لأنه يعيد للإنسان صلته بأصوله، وتأهيل للخطاب الثقافي والإعلامي والتعليمي الذي ينسج حوله هالة الحياة، وتأهيل للعلاقة مع الذات الجمعية، إذ يصبح كل موقع ينهض من النسيان حجرًا يوضع في جدار الهوية الجماعية.
ولا تُقاس أهمية هذه المشاريع بما تدره من دخل فحسب، ولكن بما تفتحه من نوافذ على العمق الحضاري والتاريخي، وما تمنحه من معاني الانتماء. إنها مشاريع تعيد للأردني علاقته بأرضه عبر الجمال والذاكرة، وتعيد للزائر صورًا من ماضٍ مشترك، حيث كان هذا المكان ملتقى طرقٍ وأديانٍ وحضارات.
ولا يكتمل مشروع التأهيل إلا حين يتحوّل إلى مسار وطني جامع، تُسهم فيه المؤسسات الرسمية والفعاليات المجتمعية والقطاعات التعليمية والثقافية، ضمن رؤية طويلة الأمد. فالموقع الأثري لا يستعيد نبضه إلا إذا أصبح جزءًا من السرد الحيّ، ومن الذاكرة اليومية، ومن الحكاية التي تُروى في البيت، وتُدرّس في المدرسة، وتُغنّى في الحفل، وتُعاد كتابتها في دفاتر الأجيال. عندها فقط، يُصبح التأهيل فعلًا مستدامًا، وذاكرةً متجددة مفعمة بالحياة.
وحده الحجر إذا نُطق بلغة الحياة، يستطيع أن يوقظ ذاكرةً كادت تغفو في ظلال النسيان.