قصير عمرة معشوقة الزمن الأموي
أ.د سلطان المعاني
26-04-2025 11:17 AM
تَسكنُ القصورُ الباديةَ شاهدة على زمن، وقصائد مرئية نقشتها يدُ العشق الأموي على خاصرة الصحراء. فليس من قبيل الصدفة أن يشيد الخلفاء قصرًا في مفازةٍ تشتدّ فيها الريح، وتلين فيها الروح، فالأمر من قبيل الرغبة في الاصغاء إلى ما لا يُقال، في بناء ما يُشبه التبتّل للحُسن، واستعادة النشأة الأولى في اتساع الرمل ونقاء السَماوات. تبني البادية ألقها من غبار الشمس ونقع القوافل، وتنسج به هوية تعلو فوق الزمن. وهي، كما قصير عمرة، موطنٌ للدهشة، وأمّ للأثر، وصدى لصوت الإنسان حين كان يصنع مجده على مهلٍ، وينقش شعوره في الحجر.. فما حسب الأمويون يومًا أن هذا القصر الذي جمع لهو الشعراء، وندماء السمر، وهدير الصيد، ووشوشة النجوم، سيغدو بعد قرونٍ مكانًا يستدعيه العاشقون للمكان، كما تُستدعى الحبيبة الأولى، وكأنما رسومات قبابه لم تكن إلاّ جفونًا مفتوحة للحلم، تقرأ في البرج والفلك أسرار الطرق وخرائط الروح.
يتراءى القصر، من بعيد، كشذرة من فردوسٍ ضلّ عن المدينة، واستراح في البادية ليتهجّى بهاء الطبيعة. ومن قريب، تتبدّى رسوماته كأنها لوحات أُنزلت من علياء، تصور الصيد والنماريد والنعام والغزلان، ترسم النساء والظل والعنب، وتقول: هنا الإنسان، وهنا عشقه، وهنا احتفاله بالحياة. كان قصير عمرة محطة راحة، ومأوى للرؤية، وملتقى لزعماء القبائل، ومقامًا للقرارات الكبرى، حيث السياسة ترتدي عباءة الصمت، ويعلو الفن فوق الصوت. فالمكان اختير بوعي، بعيدًا عن الجند والأسوار، ليكون ملاذًا من عين الرقيب، وملجأ للتأمل لا للعرض.
ينحت القصر هويته من طبيعة الأرض، ومن ظلال الشيح والعجرم، ومن أسرار الطير والبُرج والريح. في قبته، ترتسم الأبراج لا عبثًا، بل امتثالًا لميراث العربي في قراءة السماء. ينجذب الرسام إلى الفلك كما ينجذب الشاعر إلى القافية، وكأنّ السماء حين لا يُطالها، تُرسَم. قصير عمرة شاهد على نزعة خالدة في العربي أن يتخذ من الجمال مقامًا، ومن العمارة صلاةً، ومن الصحراء وطنًا يعلو فوق الخرائط. لذا، لا يُستغرب أن تبقى القصور الأموية في البادية الأردنية براهين مجد، وسُحبًا من عطر الأجداد، تهطل على الزائر كلما مرّ بها، فتبلّ قلبه قبل أن تبلّ ترابه. في البادية، لا يقال وداعًا، بل يُهمس دائمًا: عد، فالمكان لم ينتهِ بعد، والتاريخ ما زال يكتبه الرمل على مهل.
تصدح جدران قصير عمرة كما قصائدُ الغزل الأولى، بأصداء الحلم حين صار فنًّا. فعلى جدرانه، تتهادى الرسومات كأنها سُجّلَت بأنفاس زمنٍ جميل. ونساء بعيونٍ حانية، يلوحن كأنهن حوريات خرجن من أسطورة شرقية، وثمة خيول تُسرّج للنصر أو للركض خلف نداءٍ غامض، ونمور تتلفّت في البرية، كأنها تقرأ المستقبل في ملامح الصيد.
في الحمّام، تعلو القبة كفلكٍ صغير، تنزلق عليه النجوم والأبراج، امتثالًا لدهشة العربي حين كان يهتدي بفلك السماء قبل أن يُرسم على أرضه. تسكن الأبراج في أعالي القبة كأنها وشوشةٌ بين الفنان وربّه، أو بين الإنسان وسرّ الطريق في البيداء. لا غفلة في اختيارها، وإنما إشارة إلى تلك العلاقة الواثقة بين البادية والمجرّة، وبين الخطى ونقاط الضوء.
تتدلّى عناقيد العنب على الجدران، في نضجٍ حسيّ لا يخلو من الرمز، وتنتشر زهرات الأقحوان وورق الكرمة كأنما لتُوازن مشاهد الصيد والسيادة، بمشهد الهدوء والخصب. هنا انسجام عربيّ بين القوّة والنعومة، بين الفتك والجمال، بين السهوب الجافة وانبعاث الحياة منها. ألوان الزخارف تنساب برقةٍ متقنة—كُمَيتٌ داكن، وأخضرٌ زيتوني، وأصفرٌ ترابي، وأزرق سماوي—كأن الفنان قد اغترف من ألوان الصحراء وعصير الحلم، وصاغ منها نغمةً تُرى ولا تُنسى. كلّ رسمة في القصر تقول، وتُنشد، وتصوّر لتؤسس لسيمفونية الحياة في فضاءٍ مفتوح على التأويل.
وكأنّ القصر حين استوى على الرمل، كان قصرًا ورؤيا نحتت الزمن، واستحضرت كيمياء الإنسان حين جمع بين السياسة والمتعة، بين العمارة والصلاة، بين الماء والنار. فهنا حيث تتقاطع الصور والأنفاس، يصبح قصير عمرة لغةً تُتلى، ومعلقةً تُعلّق في ذاكرة المكان العربي.