البيروقراطية الأردنية .. بين الصورة المشوّهة والحقيقة المُغيّبة
د. صالح سليم الحموري
27-04-2025 10:28 AM
حينما نتحدث عن البيروقراطية في الأردن، فإن أول ما يتبادر إلى ذهن المواطن العادي هو طابور طويل، توقيع من موظف غير موجود، معاملة "بتلفّ" على خمس دوائر، وتعليمات تُغيَّر كل يومين. هذه الصورة الذهنية – وإن كانت مألوفة – إلا أنها لا تعكس الحقيقة الكاملة.
لقد أصبحت كلمة "بيروقراطية" في الخطاب العام رديفًا للتعطيل، والبطء، والجمود. تُستخدم وكأنها تهمة بحد ذاتها: "المعاملة عالقة بسبب البيروقراطية"، أو "هالقرار مش نافذ لأنه البيروقراطية قاتلته". ولكن السؤال الجوهري هو: هل هذه الصورة تمثل الواقع بأكمله؟
وهل البيروقراطية في الأردن فاشلة بطبيعتها، أم أن هناك سوء فهم عميق لدورها، وسوء إدارة يفاقم التحديات التي تواجهها؟
الأسطورة الأولى: البيروقراطية الأردنية تعني الهدر والكسل: في أغلب الحوارات العامة، يُشار إلى البيروقراطية باعتبارها جُرمًا إداريًا، دون التمييز بين النظام الإداري كأداة تنظيمية ضرورية، وبين سلوكيات بعض الأفراد أو ممارسات خاطئة تمثّل الاستثناء لا القاعدة. الواقع أن الجهاز الإداري الأردني، رغم كل ما يُقال، يستند إلى تقاليد راسخة منذ تأسيس الدولة، وكان له دور كبير في استقرار الأداء الحكومي في ظل تقلبات إقليمية عنيفة.
وفي كثير من الحالات، تكون الأوامر والتعليمات الصادرة من مستويات عُليا غير واضحة أو متضاربة، مما يترك الموظف "الذي في الواجهة" في موقف حرج، لا يعرف أن كان سينجز أم يُحاسب لاحقًا. وهنا تتحول البيروقراطية إلى درع حماية لا آلية تعطيل.
الأسطورة الثانية: الموظف العام الأردني كسول ولا يعمل: كم مرة سمعنا تعميمًا من هذا النوع؟ وكأن كل من يرتدي بدلة رسمية ويجلس خلف مكتب هو عدو للإنتاجية! بينما الحقيقة أن كثيرًا من الموظفين العموميين يعملون بإخلاص في ظل ظروف صعبة، وبرواتب لا تُقارن مع القطاع الخاص. يكفي أن تزور محكمة، أو مستشفى حكومي، أو دائرة ضريبة في وقت الذروة، لتدرك حجم الضغط الواقع على الموظف الحكومي الذي يعمل دون تقدير حقيقي.
الأسطورة الثالثة: تقليص البيروقراطية يعني تحسين الأداء: يتم الترويج دائمًا لفكرة أن تقليص عدد الموظفين، أو كما يُقال خطأً "ترشيق القطاع العام" (مع أن الرشاقة الحكومية بعيدة كل البعد عن مفهوم تقليص الأعداد)، أو إلغاء بعض الدوائر الحكومية، هو الحل لتحسين الأداء. لكن الواقع العملي يثبت عكس ذلك. تقليص حجم الحكومة دون إصلاح إداري شامل لا يؤدي إلا إلى مزيد من التعطيل .التجربة الأردنية مع برامج "إعادة الهيكلة" خلال العقدين الماضيين، أثبتت أن تقليص الجهاز الحكومي بدون توفير بدائل رقمية، أو تنفيذ برامج تدريب وتأهيل فعّالة، أو تحديث منظومة التشريعات والإجراءات، لا ينتج عنه تحسين في الأداء، بل يؤدي إلى فراغ في تقديم الخدمات، وزيادة في تعقيد العمليات بدلاً من تبسيطها.
الإصلاح الحقيقي لا يقوم على الأرقام فقط، بل على بناء قدرات مؤسسية مرنة، وكوادر مدربة، وتشريعات ذكية تواكب متطلبات المستقبل عن طريق الاستشراف والابتكار.
وجه آخر للبيروقراطية: النظام الذي يمنع الانهيار
في الأزمات الكبرى – من جائحة كورونا إلى الأزمات الاقتصادية المتكررة – أثبتت البيروقراطية الأردنية أنها رغم كل النقد، كانت درعًا صلبًا لصمود الدولة. فبدون هذا الهيكل الإداري، لما كان ممكنًا تنظيم توزيع اللقاحات، أو فرض الحظر بشكل منظم، أو ضمان استمرارية الخدمات الأساسية وسط الانهيارات المحيطة. نعم، قد تكون البيروقراطية بطيئة أحيانًا وتفتقر إلى المرونة، لكنها – حين تُدار بكفاءة – تبقى صمام أمان. فالبديل عنها ليس الكفاءة الفورية، بل الفوضى.
الانتقاد سهل، وهو في العادة مفتاح شعبوي لكسب الرضا السريع، لكن الإصلاح الحقيقي لا يأتي بالهدم، بل بالتصميم الذكي. ما تحتاجه البيروقراطية الأردنية اليوم هو تحديث عميق يبدأ من التشريعات والإجراءات لتواكب متطلبات المستقبل، ويمرّ بتصفير الممارسات المعرقلة، ويصل إلى بناء ثقافة إدارية قائمة على الحصافة، والتدريب، والتحفيز. نحن بحاجة إلى علاقة جديدة بين المواطن والدولة، تقوم على الوضوح، والرقمنة، والمساءلة، والتمكين. فالإصلاح لا يعني القضاء على البيروقراطية، بل تحريرها من ركام التعقيد، لتكون أداة لخدمة الناس لا عبئًا عليهم.
الطريق أمامنا ليس مفروشًا بالزهور، لكنه مليء بالفرص لمن يؤمن بها. البيروقراطية التي بنت مؤسساتنا يومًا، قادرة أن تنهض من جديد، إذا منحناها فرصة أن تتغير، نحن لا نحتاج إلى جلدها... بل إلى إطلاق طاقاتها. نحتاج إلى بيروقراطية مبدعة، رشيقة، تصنع المستقبل بدلاً من أن تلاحقه. فالتجديد ليس خيارًا، بل مصير، ومن يزرع روح الابتكار اليوم، يحصد الغد الذي يحلم به.
* مستشار التدريب والتطوير كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية