أبعاد مشاركة الملك والملكة في جنازة البابا فرنسيس
د.مأمون الشتيوي العبادي
29-04-2025 10:36 AM
شهدت مراسم جنازة قداسة البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، حضورًا عالميًا واسعًا ضم رؤساء دول وحكومات وزعماء دينيين وشخصيات رفيعة المستوى. من بين أبرز الشخصيات الحاضرة، برز جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين وجلالة الملكة رانيا العبدالله، مما يعكس أهمية هذه المشاركة في سياقات متعددة تتجاوز البعد البروتوكولي إلى أبعاد سياسية ودينية ورمزية وإنسانية عميقة.
إن حضور القيادة الأردنية في هذه المناسبة لا يعد حدثًا عابرًا، بل هو رسالة مدروسة، تحمل دلالات استراتيجية على المستويين الإقليمي والدولي. ومن خلال هذا التقرير، سنقوم بتحليل أبعاد هذه المشاركة، وإبراز أهميتها في ضوء مواقف الأردن الثابتة من قضايا الحوار بين الأديان، والسلام العالمي، وتعزيز العلاقات مع الفاتيكان.
أولًا: البعد السياسي
على الصعيد السياسي، تُعد مشاركة جلالة الملك عبدالله الثاني وجلالة الملكة رانيا العبدالله في جنازة قداسة البابا فرنسيس تأكيدًا للدور الأردني الفاعل في الساحة الدولية كوسيط سلام وكدولة تحظى باحترام عالمي.
1. تعزيز العلاقات مع الفاتيكان:
تربط الأردن والفاتيكان علاقات وثيقة مبنية على أسس الاحترام المتبادل والحوار بين الأديان. وقد عزز الملك عبدالله الثاني هذه العلاقات من خلال زيارات متبادلة واتفاقيات مشتركة تهدف إلى حماية الأماكن المقدسة وتعزيز قيم التعايش. ومن خلال الحضور الشخصي لجلالة الملك، تتجدد رسالة الأردن في الحفاظ على هذا التعاون وتعميقه، خاصة في ظل التغيرات الإقليمية والدولية.
2. دعم السياسة الخارجية الأردنية:
يعتمد الأردن في سياسته الخارجية على مبدأ الانفتاح والحوار مع جميع الأطراف الدولية. والمشاركة في حدث بهذا الحجم تعزز صورة الأردن كدولة معتدلة تسعى إلى تقريب وجهات النظر وتعزيز السلم العالمي. كما تعكس توازنًا دقيقًا في علاقات المملكة مع الغرب المسيحي والعالم الإسلامي.
3. تأكيد الالتزام بقيم الاعتدال:
في ظل تنامي النزاعات الدينية والسياسية حول العالم، جاءت مشاركة جلالة الملك لتؤكد التزام الأردن بالاعتدال، ورفض التطرف، والعمل من أجل بناء عالم يسوده التفاهم والسلام، وهي الرسائل التي لطالما تبناها الملك عبدالله الثاني في محافل دولية مثل الجمعية العامة للأمم المتحدة ومؤتمرات حوار الأديان.
ثانيًا: البعد الديني والحضاري
يحمل البعد الديني لحضور جلالة الملك وجلالة الملكة أهمية خاصة، بالنظر إلى المكانة الروحية للأردن وإلى الأدوار التي يضطلع بها جلالة الملك على صعيد حماية المقدسات.
1. حماية المقدسات:
بوصفه صاحب الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، يولي جلالة الملك أهمية كبيرة لحماية الحقوق الدينية وضمان حرية العبادة. مشاركة جلالته في مراسم الجنازة تندرج في هذا السياق، وهي رسالة دعم للمسيحيين ليس فقط في الأردن، بل في العالم أجمع، وتأكيد على الالتزام بالحوار الديني.
2. تأكيد دور الأردن كمهد للتسامح الديني:
لطالما شكل الأردن نموذجًا للعيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين. ومن خلال مشاركة جلالته في الجنازة، يتم تجديد التأكيد على هذه الهوية الوطنية التي تتميز بالاحترام المتبادل والانفتاح الديني، في وقت تزداد فيه حدة الانقسامات الدينية في مناطق أخرى من العالم.
3. تعزيز مبادرات الحوار بين الأديان:
شارك الأردن في عدة مبادرات عالمية لتعزيز الحوار بين أتباع الديانات المختلفة، مثل مبادرة “كلمة سواء”، و”رسالة عمان”. ومشاركة الملك عبدالله الثاني في جنازة البابا فرنسيس تضع الأردن في مقدمة الدول الساعية لترسيخ هذه المبادئ على أرض الواقع.
ثالثًا: البعد الرمزي والإنساني
بعيدًا عن السياسة والدين، هناك بعد إنساني ورمزي عميق لمشاركة جلالة الملك وجلالة الملكة.
1. التضامن الإنساني:
جنازة البابا فرنسيس ليست مناسبة دينية فقط، بل حدث إنساني عالمي، شاركت فيه دول وشعوب من مختلف الديانات والخلفيات الثقافية. حضور جلالة الملك عبدالله الثاني يعبر عن تضامن إنساني عميق مع الكاثوليك ومع العالم بأسره، في وداع شخصية لعبت دورًا مهمًا في نشر ثقافة المحبة والرحمة.
2. تكريم شخصية ملهمة:
كان البابا فرنسيس شخصية استثنائية، سعت إلى الدفاع عن حقوق اللاجئين، والفقراء، والمهمشين، وقد دعا إلى تعزيز الأخوة الإنسانية، لا سيما من خلال وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعها مع شيخ الأزهر. من هنا، فإن مشاركة القيادة الأردنية في توديع البابا تعكس تقديرًا رسميًا لهذه القيم التي تتلاقى مع المبادئ التي يتبناها الأردن في سياساته الداخلية والخارجية.
3. رسالة للعالم:
في عالم تتزايد فيه النزاعات والانقسامات، جاءت مشاركة جلالة الملك لتوجه رسالة أمل للعالم، مفادها أن القيم الإنسانية المشتركة يمكن أن تجمع الشعوب، مهما اختلفت أديانهم أو ثقافاتهم.
لم تكن مشاركة جلالة الملك عبدالله الثاني وجلالة الملكة رانيا العبدالله في جنازة قداسة البابا فرنسيس مجرد حضور بروتوكولي تقليدي، بل حملت أبعادًا سياسية ودينية وإنسانية عميقة، جسدت الدور الأردني التاريخي في تعزيز قيم الحوار والتسامح والاحترام المتبادل.
تأتي هذه المشاركة في سياق رؤية جلالة الملك لتعزيز مكانة الأردن كمنارة اعتدال في منطقة تعج بالتوترات، وكحامل لرسالة السلام والحوار إلى العالم. كما تبرز هذه المشاركة كاستكمال للجهود الأردنية في حماية حقوق أتباع جميع الديانات، والدفاع عن المقدسات، والعمل على بناء مستقبل يسوده التفاهم الإنساني.
في المحصلة، أكدت هذه المشاركة مجددًا أن الأردن، بقيادته الهاشمية، لا يزال طرفًا فاعلًا ومحوريًا في الساحة الدولية، وقادرًا على جمع المختلفين على قيم إنسانية مشتركة ترتكز على الاحترام والمحبة والسلام.