تمثيل العاطفة بوصفها أداة مركزية في الخطاب التحريضي يُفضي إلى تأجيج الشعور الجمعي وتفجير الانفعالات المكبوتة في لحظات القلق والتحول، إذ تتقدم المشاعر على المعايير العقلية، وتُزاح الحجج والمنطق لصالح الإثارة التي تلامس عمق الانفعال البشري. المضي بهذا الخطاب نحو غايات أيديولوجية محددة يتكامل مع عملية متعمدة لإنتاج ثنائية استقطابية تفصل بين "الصفوة المؤمنة" و"الآخر الخائن"، بين "الطهر" و"الدنس"، وبهذا يتحول المجتمع إلى ساحة مشحونة بالشك وسوء الظن.
تجنيد الدين في هذا الإطار يتخذ منحى وظيفيًا لا روحانيًا، حيث تُستخرج النصوص، وتُجتزأ الدلالات، ويُعاد ترتيب المقولات الدينية ضمن هندسة خطابية تخدم غايات الحشد والتحريض، فتُصبح المنابر منصات للإقصاء لا للهداية، ويتحول القول الشرعي إلى سلاح رمزي، يُشهر في وجه من يخالف أو يختلف، لتترسخ بنية فكرية تكفيرية تُحيل التنوع إلى تهديد، وتُعيد تشكيل الانتماء على أسس الإلغاء والنفي والاستعداء.
تحقيق الاستقواء بالرموز التاريخية والروائية ذات الحمولة المظلومية يسهم في إعادة إنتاج وعي جمعي يرى في الماضي مرآة للحاضر، فيُعاد تدوير مشاهد الانكسار والانتهاك لتُبثّ عبر قنوات الإعلام الرقمي، مفعّلةً رموزًا وشعارات مشحونة تستدعي العنف الرمزي أو المادي، وتُؤسس لسردية تُختزل فيها أسباب الانحدار إلى خيانة داخلية أو مؤامرة خارجية، ما يُعيد إنتاج الكراهية بوصفها موقفًا مشروعًا، ويغلق منافذ الحوار لصالح الطعن والتخوين.
تكثيف العبارات، واختزال الشعارات في صيغ قابلة لإعادة التكرار، يُسهل عبور هذه الرسائل إلى وجدان العامة، ويجعل من المنصات الرقمية ساحة مفتوحة للتجييش والانفعال، حيث تغيب الفكرة وتعلو الشعارات، ويُهمّش العمق لصالح المباشرة، فتنتصر الغرائز على التأمل، وينقلب المجال العام إلى ساحة معارك لغوية وهوياتية تُغذي الانقسام والتشظي.
تجريد اللغة من رصانتها، وحقنها بالانفعالات، يُؤدي إلى إنتاج خطاب هجيني تُذوب فيه الحدود بين السياسي والديني والإعلامي، فتتراجع فكرة الحياد أو النقد أو التعدد، ويُؤطر كل رأي مخالف ضمن خانة الخيانة أو التجديف أو الارتهان، ويتحول التساؤل إلى تهديد، مما يزعزع أركان الوعي ويُشيع الخوف من التفكير.
تفكيك البنية النفسية للجماهير على أسس من الريبة والتوجس يجعل من الآخر دائمًا مصدرًا للتهديد، ويؤسس لمنظومة انتماء ضيقة ترى في الجماعة حصنًا أخيرًا، وفي الخارج كيانًا مشبوهًا، ويُنتج جيلًا هشًا أمام الاختلاف، غافلًا عن مواكبة مفاهيم الحداثة، كالمواطنة والمساواة والحرية، دون أن يُعاد تذويبها في قوالب ضيقة من التأويل الديني.
تقديم خطاب بديل يتطلب إطلاق طاقات العقل، وإعادة تفعيل دور الفكر النقدي، وإحياء المنظومة القيمية القائمة على السياق لا على الاجتزاء، وعلى التعدد لا على التماثل، وعلى الوعي لا على الانفعال. تحرير الدين من قبضة التسييس، وتحويل المنصات من أدوات تعبئة إلى ساحات معرفة، يمثل مسارًا للنجاة من هذا الانحدار الخطابي الجماعي.
تعزيز هذا المسار يزداد ضرورة في ضوء ما شهدته البلاد مؤخرًا من توقيف عناصر تنتمي إلى تيارات ذات طابع تكفيري إرهابي، انكشفت صلات بعضهم بأجندات خارجية مشبوهة، وسُجّلت محاولة استغلال البيئة الإعلامية والتحريض على الدولة ومؤسساتها، ما استدعى تجميد عمل الجهة التي احتضنت هذه العناصر، في خطوة سيادية تُعيد ضبط المجال العام ضمن حدود الأمن الوطني والاستقلال السياسي. إن استقواء أي فئة على الأردن بخطابات مستوردة أو مشاريع أجنبية يُعد خروجًا عن الإجماع الوطني، ويُقابل بالرفض والاستهجان، لأن كرامة الدولة فوق الحسابات الأيديولوجية الضيقة، ولا تُهادن في وجه من يسعى لتمزيق نسيجها عبر شعارات زائفة أو عقائد متطرفة.
إعلاء الوطن فوق الأهواء والمآرب الضيقة يمثل جوهر الانتماء الحقيقي، فالأردن ليس ساحة للتجريب الأيديولوجي، ولا حقلًا مفتوحًا لمغامرات فكرية ملوثة تستبطن الفتنة وتلبس لبوس الدين لتطعن في خاصرته. من أراد بالوطن سوءًا، باسم الدين أو الثورة أو المظلومية، فقد خان رسالته قبل أن يخون ترابه. لا مكان في هذا الحمى الطاهر لمن يسعى لتفكيك نسيجه الاجتماعي، أو يحاول تفجير وحدته الوطنية بشعارات جوفاء وأجندات مرتهنة لمشاريع خارجية مشبوهة. الجهة التي احتضنت الفكر التحريضي وأرادت تصديره ضد مؤسسات الدولة والمجتمع، كشفت عن وجهها الحقيقي، فكان لا بد من الحسم. هذا الوطن أقوى من كيدهم، وأطهر من خطابهم، وأبقى من أوهامهم. في وجه كل فتنة، يقف الأردن موحدًا، لا تزعزعه صرخات الحقد، ولا تهزه ريح الخيانة، لأن انتماءه مزروع في القلوب، ومصيره مرسوم بإرادة وعي شعبه وحكمة قيادته.