facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الدين بين الشريعة والتنظيم


أ.د سلطان المعاني
30-04-2025 07:35 AM

يبدأ الدين بوصفه منظومة تشريعية تستجيب لفطرة الإنسان وميلانه نحو الغاية الأسمى التي يبحث عنها ليشعر بأن لحياته هدفاً يتجاوز المادة والعرض الزائل، فيؤسس لعلاقة غيبية مع الله تتجاوز حدود الظاهر، ويُرسّخ في الوعي الجمعي قيمًا تستمد قوتها من مرجعية متعالية. تتشكل الشريعة في هذه البنية كإطار ضابط للسلوك، ومُنظِّم للعلاقة بين الفرد ومحيطه، لا بوصفها قانونًا فحسب، وإنما كوعي وجودي يتكئ على فكرة الغائية؛ وهي ليست اعتباطية، ولا مجرد قواعد تنظيمية، وإنما لها مقاصد عليا تهدف إلى تحقيق الخير، والعدل، والتزكية، وتنظيم الحياة على نحو ينسجم مع كرامة الإنسان وعمارة الكون. وتُضفي الشريعة على الفعل بُعدًا أخلاقيًا، وتضبط إيقاع الجماعة عبر التوجيه والضبط والتكليف، في سياق لا يُفرِّق بين الفعل الديني والفعل الإنساني.

ولكن يتحوّل الدين إلى حزب حين يُستثمر في الصراع السياسي، فتتحوّل النية من التعبد إلى التموقع، ويتحوّل الفضاء العام إلى ميدان تمايز لا ميدان تعايش. لا يتسع الحزب الديني للآخر إلا بقدر ما يخدم رؤيته المغلقة، فيغدو الدين وسيلة للفرز لا للوصل، وللإقصاء لا للاحتواء. تتراجع القيم العليا حين يُستعار النص لتبرير الهيمنة، وتخفت النيات الروحية أمام الضجيج الأيديولوجي، حيث يُعاد تأويل المقدس ليخدم البنية السلطوية للحزب لا البنية القيمية.

يشتدّ التوتر حين تُختزل الشريعة في خطاب تعبوي، تُؤطره حسابات الربح والخسارة، وتُعيد إنتاجه مؤسسات لا تسائل ذاتها، فتفقد الرسالة بعدها الكوني، وتتحوّل إلى خطاب شمولي يُكرِّس الطاعة لا الاجتهاد، والاتباع لا النقد، والمراوحة في اليقين لا السير في دروب البحث. تتبدى المفارقة حين تصبح أدوات الإصلاح وسيلة للتدجين، وحين يُلبَس الانتماء لباس الإيمان، فيُختزل الوجود كله في ثنائية نحن وهم، ويُعاد ترتيب القيم بحسب الولاء لا بحسب الأثر.

ويتسع الشرخ بين البنية والنية عندما يُستبدل الإصغاء إلى ضمير النص بإملاءات التنظيم، فتتحول المفاهيم من مُلهِمة إلى مُلزِمة، ومن مُوجِّهة إلى مُسيطِرة. ولا تعود الشريعة هنا لغة تعبير عن الإرادة الحرة، وإنما قيدًا يُفرَض باسم اليقين، فيُهزم التنوع باسم الوحدة، ويُنفى التعدد باسم الحقيقة. يُعاد ترتيب المشهد الثقافي والاجتماعي وفق منطق الصدام، حيث يتحول الدين من منظومة للارتقاء إلى أداة للاصطفاف.

تتشكل المفارقة الأكثر عُمقًا حين تُصاغ الهوية من بوابة العداء، لا من بوابة الوعي، فيُستعاد الماضي بوصفه حجّة على الحاضر، لا منطلقًا للتجديد. تُحاصَر الروح في شعارات تُكرِّر ذاتها، ويُستدعى الجهاد من مخزون الرمزية لا من ضرورات الواقع، فيتحوّل التديّن إلى هوية جاهزة تُوزَّع وتُصنَّف، لا تجربة شخصية تُكتَسَب وتُصاغ، فيستحيل الدين في هذا السياق إلى بُنية مغلقة، تتغذّى على المخاوف، وتُعيد إنتاج ذاتها عبر تكرار الخوف ذاته.

يُفضي هذا الانزياح إلى أزمة في التصور والممارسة، حيث تتماهى العقيدة مع الاستراتيجية، ويُعاد ترتيب الأولويات وفق ما تُمليه موازين القوى لا مقاصد الشرع. يفقد الفقه مرونته، ويُسحب الاجتهاد من الفضاء العام، فتغيب الأسئلة الكبرى، وتُستبدل بمواقف آنية لا تصمد أمام اختبار الزمن، فلا يعود الدين مصدرًا للحكمة، بل مشروعًا للصراع، حيث يُدار الفضاء الرمزي بمفاهيم الصلابة لا بمفاهيم العبور، ويُؤطَّر الإنسان في دائرة الطاعة لا في أفق الحرية المسؤولة.

يستدعي الخروج من هذه المفارقة إعادة تعريف العلاقة بين البنية والنيات، وتحرير الشريعة من أسر التوظيف، وردّها إلى مقاصدها العليا التي تُكرِّم الإنسان وتُنظِّم العيش المشترك، دون أن تُختَزل في أدوات للهيمنة أو شعارات للصراع. يرتبط هذا المسار بإرادة فكرية جديدة تُعيد للدين رسالته الأخلاقية في بناء المجتمع، وتُبقيه مساحة مفتوحة للتأويل، لا حقلاً للتنازع.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :