القادة في المؤسسات الحكومية والذكاء التكيفي
د. صالح سليم الحموري
30-04-2025 07:36 AM
في عالمٍ يتسارع إيقاعه بوتيرة تفوق التوقعات، أصبحت قادة المؤسسات الحكومية بحاجة ملحة إلى امتلاك "مهارة البقاء والريادة" في زمن التحولات الكبرى .فلم يعد يكفي أن يتحلى القائد بالخبرة الطويلة أو الالتزام الصارم بالأنظمة، بل باتت الضرورة تقتضي نمطًا جديدًا من الذكاء: ذكاء قادر على استيعاب التحولات السريعة، والتعامل مع التعقيد والغموض، واغتنام الفرص المتجددة.
إنه "الذكاء التكيفي"، تلك القوة الهادئة التي تميز القائد القادر على تحويل الأزمات إلى فرص، والمخاوف إلى خطوات واثقة نحو المستقبل.
في المؤسسات الحكومية تحديدًا، حيث تتشابك التحديات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية، يصبح الذكاء التكيفي مهارة حاسمة. فلم تعد القوانين وحدها كافية لضمان الاستقرار، ولا اللوائح كافية لضمان النجاح. في مواجهة تحولات كالذكاء الاصطناعي، والأزمات البيئية، والتغيرات الاقتصادية العالمية، يتطلب الأمر قادة يفكرون "بطريقة رشيقة"، يتعلمون مع التغيرات وبسرعة، ويتصرفون بشجاعة مدروسة.
الذكاء التكيفي يبدأ من القناعة العميقة أن الإجابات القديمة قد لا تصلح لعالم جديد.
"القائد المتكيف" هو من لا يرى التغيير تهديدًا، بل فرصة، من لا يتمسك بخطط جامدة، بل يتعامل مع الاستراتيجيات ككائنات حية تتطور مع السياق. هو ذاك الذي يتقن فن الاستماع النشط، ويقرأ ما بين السطور، ويعيد تشكيل فهمه للواقع بناءً على المعطيات لا التوقعات.
في السنوات الأخيرة، شاهدنا كيف تفوق القادة المتكيفون في التعامل مع الأزمات.
خلال جائحة كورونا، على سبيل المثال، كانت الحكومات التي تبنّت التكيف السريع وإعادة ابتكار الخدمات هي الأقدر على حماية مجتمعاتها واستمرارية خدماتها. في حين أن المؤسسات التي انتظرت عودة "الوضع الطبيعي" بقيت عالقة في دوامة من الإرباك والتأخر.
الذكاء التكيفي لا يعني الفوضوية أو الارتجال، بل يعني إدارة التغيير بثقة وإدراك.
أن تتخذ القرارات تحت ضبابية المعلومات، وأن تتحمل مسؤولية التغيير حتى قبل أن تكتمل كل ملامحه.
القائد الحكومي الذكي تكيفيًا، هو من يزرع ثقافة التعلم المستمر داخل فريقه، من يشجع على التفكير النقدي، ومن يحتفل بالتجريب، حتى لو حمل في طياته بعض الأخطاء.
إن تطوير هذا النوع من الذكاء يحتاج إلى بيئات عمل تشجع المرونة وتكافئ الشجاعة الفكرية.
يحتاج إلى مؤسسات لا ترى الفشل كعار، بل كخطوة طبيعية نحو النضج والابتكار.
ويحتاج قبل ذلك إلى قادة يتواضعون أمام متغيرات العالم، ويؤمنون أن البقاء للأكثر قدرة على التعلم، لا للأكثر تمسكًا بالماضي.
في النهاية، حين ننظر إلى القائد الحكومي في عصرنا هذا، لن يكون المعيار هو حجم المنصب أو عدد القرارات الصادرة فحسب، بل مدى قدرته على أن يكون حاضر الذهن، سريع التكيف، وقادرًا على "إعادة ابتكار ذاته"، ومستعدًا لإعادة تعريف معايير النجاح كلما تطلبت الظروف ذلك .إن القادة الذين يحملون في عقولهم وقيمهم ذكاءً تكيفيًا نابضًا بالحياة، هم وحدهم القادرون على قيادة مؤسساتهم بثقة نحو مستقبل يتجدد باستمرار.
* مستشار التدريب والتطوير / كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية