يتكوّن عيد العمال من نسيج تاريخي تصاعدت فيه أصوات الكادحين في مواجهة أنظمة العمل القهرية التي سادت القرن التاسع عشر، حين تفاقمت ظروف الاستغلال في ظل الثورة الصناعية، فانبثقت حركة نقابية تطالب بثماني ساعات للعمل، وثماني للراحة، وثماني للحياة.
اندلعت الاحتجاجات الكبرى في مدينة شيكاغو عام 1886، حيث شكّلت إضرابات الأول من أيار لحظة مفصلية في الوعي العمالي، وانتهت إلى قمع دموي خلّد التضحيات وأرسى رمزية اليوم. انتقلت شرارة النضال إلى العالم، وتحولت المناسبة إلى وقفة عالمية تحتفي بما جرى انتزاعه من حقوق، وتذكّر بما لم يتحقق بعد، فصار العيد مناسبة سياسية وأخلاقية تعبّر عن الصراع من أجل العدالة في معترك الإنتاج، وعن تشكّل الهوية العمالية بوصفها فاعلًا تاريخيًا لا مجرد قوة عاملة صامتة.
ينبع عيد العمال، إذاً، من صيرورةٍ تاريخية عميقة، تشهد على التحام الكائن الإنساني بجهده اليومي في مواجهة قوى الاستئثار، ويُستأنف فيه النظر إلى العمل بوصفه طاقة خَلاقة تمنح العالم معناه، وتُقيم بين الإنسان والوجود صلة تكشف عن جوهر الكرامة ومقام الفعل. ينشأ هذا اليوم من وجع الطبقات المسحوقة في المجتمعات الصناعية الأولى، حيث تكدّست الآلات على أجساد العاملين، وتحوّلت الأيدي إلى امتدادات صامتة لرغبات الإنتاج دون اكتراث لإنسانيتها، فهبّ العاملون يطالبون بزمنٍ يليق بالعيش لا بالمكائن، وبلحظة وقوف تعيد ترتيب العلاقة بين القوة والموقع، بين التعب والاعتراف.
تتكوّن دلالة هذا اليوم من التراكم الرمزي لما شكّله الكدّ من هوية للأفراد والجماعات، إذ لا يُفهم العمل على أنه مجرد وسيلة رزق، بل يُقرأ باعتباره فعلًا يؤسس للانتماء، ويوطّن الإنسان في العالم، ويجعل وجوده ذا أثر، وتاريخه ذا امتداد. فما ينتجه الكادح ليس أشياء تُستهلك فحسب، بل أسسًا تقوم عليها الحياة المشتركة، وصورًا من الذات تصوغها الممارسة اليومية، حيث تتحوّل اليد المتعرقة إلى شاهد على الحرية، والعين المنهكة إلى مرآة للمثابرة.
ينسج هذا العيد خيطًا ناعمًا بين الذاكرة والمستقبل، إذ يستحضر أشكال النضال التي خيضت من أجل تحقيق العدالة، ويحرّك المخيلة نحو واقع تُحتفى فيه الكفاءات لا الامتيازات، ويُقاس فيه المرء بمساهمته لا بثروته. يتجاوز هذا اليوم الاحتفالات الشكلية ليصبح مرآةً للفكرة العادلة التي ترى في كل عامل كيانًا كاملاً، يضخّ في الكون حيوية لا يمكن تقديرها بموازين السوق. في هذه اللحظة الزمنية، تتوقّف عجلة الإنتاج، كموقف رمزي يُعيد ترتيب المقامات، ويُعيد إنطاق الصمت المتراكم في صالات العمل، وعلى أرصفة التعب.
يُستعاد في هذا اليوم صوت من لا صوت لهم، وتُرفع فيه القيمة التي تسبق الثروة، والجهد الذي يتقدّم على الهيمنة. وتتشكل من خلاله ملامح فلسفة تقوم على الاعتراف، تُمجّد وتُقدّس الجهد، وتُنصت للفئات الهشة. يحتفي العيد بالصامتين في المصانع، والعابرين في الصباحات الباكرة، والحالمين بالعدالة وهم يُسندون أجسادهم إلى حافّة الرغيف.
يتحوّل هذا اليوم إلى لحظة كونية من التأمل في ماهية الحياة التي نصنعها بأيدينا، ويتّسع ليحمل هموم الشعوب التي لم تنل بعد حقّها في أمان الشغل وعدالة التوزيع.
وفي كل مرة يُرفع فيها شعار العامل، تُرفع معه صورة الإنسان في أقصى تجلياتها: كائن يغيّر العالم بتعَبِه، ويملأ الأرض بما يعيد للأشياء معناها، وللزمن نُبله، وللحياة جدواها.
تنبثق التحية من أعماق التقدير لكل عامل يشدّ خيوط العالم بأصابعه، ويقيم جسور الحياة بعرقه، ويمنح الكوكب وحدته عبر ما يصنعه ويشيده ويزرعه ويعلّمه.
يتوحّد العالم عبر الجهد الصامت الذي يبذله ملايين الرجال والنساء في كل رقعة من الأرض، حين ينهضون في الفجر، ويسندون الحياة من مواقعهم المتواضعة، في المصانع، والمزارع والمرافئ والحقول. إليهم تُرفع القبعات، وبهم يُصان كيان الإنسانية من التشظي، ومنهم تُستعاد كرامة الفعل الإنساني في وجه التغوّل والتهميش. فتحية لعمال العالم، صُنّاع الوجود، وحُماة القيمة، وواضعي الأساسات التي يقوم عليها الغد.