facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الكولونيالية الأكاديمية


أ.د سلطان المعاني
02-05-2025 12:46 PM

تَرسّخ نفوذ الكولونيالية الأكاديمية عبر آليات مموّهة تُخضع الوعي دون صدام، وتُعيد إنتاج أنماط التبعية من خلال بنيات مؤسسية ومعرفية تبدو حيادية ظاهريًا، لكنها تعمل كأدوات ضبط رمزي خاضعة لمركز الهيمنة. ويتبلور فعل السيطرة في احتكار الغرب لصياغة مفهوم المعرفة الشرعية، وفي إخضاع مناهج البحث ومقولاته لمركزية حضارية تفرض شروطها عبر سلطة اللغة، وهيمنة النشر، ومعايير الجودة الأكاديمية المصاغة بمنطق المركز، في تغييب ممنهج لأي دور تأسيسي للجنوب العالمي. ولا يتوقف هذا التسلّط عند تحويل اللغة الإنجليزية إلى بوابة إلزامية للعبور الأكاديمي، وإنما يمتد إلى فرض نماذج تحليلية ومفاهيمية وُلدت في سياقات مغايرة، ثم عُمّمت تعسفًا بوصفها معايير كونية لا تقبل المنازعة.

ويتّخذ تكريس السلطة المعرفية الغربية من الجامعات الكبرى في المركز آليات تمثيل عالمي تُمنح، بحكم الهيمنة، سلطة التصنيف والتقويم، فتُعاد صياغة معايير التفوق الأكاديمي وفق مؤشرات رقمية تستند إلى حجم المنشورات ومعدلات الاستشهاد، دون أدنى اعتبار للخصوصيات الثقافية أو الاحتياجات المعرفية المحلية. وتتآكل إمكانيات الجنوب في بلورة رؤاه الذاتية تحت وطأة شبكات التمويل التي تُعيد هندسة الأجندة البحثية بما يخدم أولويات الممول ويستجيب لمخاوفه وخطاباته، لا لحاجات المجتمع أو أسئلة الواقع. وبهذا يُختطف البحث العلمي من وظيفته التحرّرية، ويُحوَّل إلى مجال مطوّق بهيمنة صامتة، تُفرَض فيه الأسئلة مسبقًا، وتُختزل فيه إمكانات الباحث إلى مجرّد تنفيذٍ لأجندات خارجية مصمَّمة مسبقًا، فتُسجن الذات المعرفية في قوالب جاهزة تُفرغ الفكر من قدرته على التأسيس والمساءلة.

ويتجلى تشويه ثورة الخبرة المحلية حين يُستقطَب الباحثون من الجنوب لأداء أدوار تنفيذية هامشية ضمن مشاريع معرفية يُصمّمها المركز ويديرها، فيُستنزف الواقع الجنوبي كمادة أولية تُجمع وتُفكك دون أن يُمنح أهله حق تفسيرها أو احتكار تأويلها. تُنتزع المعرفة من سياقها الحي، وتُصاغ بلغة الآخر داخل مختبرات النشر الغربية، حيث تُمنح قيمة الفهم والابتكار لمن يمتلك أدوات التدوين والتسويق الأكاديمي، لا لمن انغمس في التجربة وشكّل نسيجها الحيّ. يُقصى الاسم الجنوبي من قائمة المؤلفين، ويُختزل حضوره إلى سطر شكر باهت في الهامش، لا يعكس عمق مشاركته ولا عدالة تمثيله، وكأن الجهد الميداني لا يُساوي شيئًا أمام سلطة التنضيد والتحرير.

يتكثف قيد اللغة كأداة إخضاع معرفي حين يُجبر الباحث على التخلي عن لغته الأم، فيُفرَض عليه التفكير والتعبير بأبجدية لا تنتمي إلى وعيه، ولا تمتد جذورها في تربة ذاكرته الجمعية، ولا تعبّر عن منظومته الرمزية والثقافية. تُجتزأ المفاهيم، وتُستأصل المجازات، ويُفرَغ النص من روحه ليُعاد تشكيله وفق اشتراطات خطابية تُمليها مجلات مصنفة تنظر إلى اللغة كقالب معياري يجب الالتزام به. يتحوّل العمل العلمي إلى نص منزوع الدلالة، مشطور بين الدقة الشكلية وبين المعنى المتسرّب من ثنايا الترجمة. وتُقصى المعارف الأصلانية، والأنساق الشفاهية، والممارسات المتجذّرة في التجربة الجماعية، من دائرة الاعتراف الأكاديمي، لأنها لم تُدوَّن بلغة المركز، ولم تُقنَّن بمنطق السوق المعرفي المهيمن.

وتتسع فجوة التمثيل حين يهيمن الغرب على شبكات التمويل والمؤتمرات والتحكيم والنشر، فتُغلق الدوائر على نفسها، ولا يُقبل من الجنوب إلا من يتقن خطابها، أو من يقدّم تجربته كـ"دراسة حالة" على هامش نظرية كبرى صِيغت هناك. وتُفتح المنصات لأصوات تنطق بلغة الغرب عن قضايا الجنوب، وتُغلق في وجه الباحث الذي لا يتقن لعبة المصطلحات أو لا ينخرط في شبكات النشر المصنّفة. هكذا يصبح الدخول إلى دائرة الاعتراف مرهونًا بشرط مزدوج: أن تكتب بلغتهم، وأن تفكر بمفاهيمهم.

ويُقابل هذا التقييد بتجارب مقاومة تتناثر في الجنوب، تسعى لاستعادة الفعل المعرفي من الداخل، عبر مؤسسات بديلة، وجامعات وطنية، ومناهج نقدية تنبع من الذات ولا تُستنسخ من المركز. وتُعاد قراءة التراث كمنجم فلسفي لم يُستنفد، وتُستعاد المعارف التقليدية بوصفها أدوات تأويلية لا رواسب ماضوية. ويُطرح سؤال السيادة المعرفية بوصفه ضرورة وجودية لإنقاذ الفكر من الاستتباع، واستعادة القدرة على تسمية الذات، وتفسير العالم بلغتها.

وينبغي أن ينبثق من هذا الصراع مشروع تحرري يسعى إلى تفكيك بنية الكولونيالية، وابتكار بنى معرفية جديدة تقوم على التعدد، والانفتاح، والتجذّر. يتطلب ذلك شجاعة فكرية لتجاوز النموذج المهيمن، وجرأة مؤسسية لإعادة تعريف معايير الجودة، وتضامنًا عالميًا يُعيد الاعتبار للهامش كمصدر إنتاج، لا كموضوع درس. فقط بهذا الانعطاف الحاسم يمكن كسر دائرة التبعية، وبناء فضاء معرفي عادل، يعترف بالجغرافيا كموقع فاعل في تشكيل الوعي، والبحث، وعلى إنتاج مفاهيمه الخاصة، وتأويل الواقع بلغته، وتسمية الأشياء بناءً على منظومتها الرمزية والتاريخية.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :