ذات حلم وردي، سرنا نحوه كما يسير العطشى إلى السراب، بعيونٍ تُبصر ما تتمنّى، لا ما هو قائم. لم نسأل كثيرًا عن تفاصيله، ولم نختلف كثيرًا على ملامحه، يكفي أنه الحلم، يكفي أنه مختلف عن هذا الواقع المثقل بالرتابة والانتظار. كانت الطريق إليه محفوفة بالتأجيل، لكنها كانت أيضًا ممتلئة بنشوةٍ تشبه الاكتفاء، نشوة المسير، لا الوصول. وربما، في سرها، كانت تقول: المسير نفسه هو الهدف، وأن كل ما نحياه الآن هو تمرين بطيء على اكتشاف ما فينا لا ما أمامنا. لكننا لم ننتبه كثيرًا لما نترك خلفنا، ولم نتوقف بما يكفي عند ما نُعيد إنتاجه في الطريق نفسه. تغيّرت اللافتات، لكن الوجهة بقيت مُعلّقة، مترددة، تُطلّ علينا من بعيد كما يطلّ الأمل حين يتخفف من الوعود. لم يكن هذا التيه تخليًا عن الحلم، كان نوعاً من الحذر الجديد الذي تعلمناه من كثرة خيباتنا. صرنا نُقلّب الكلمات كما يُقلّب التائه خطواته، نختار النعومة في التعبير لأننا بتنا نخاف من حجم الصدق إذا أطلقناه بلا تغليف.
هذا الواقع، كما هو، لا يُديننا، لكنه يُشير إلينا. لا يجلدنا، لكنه يُخبرنا بما صرنا عليه: شعب يتذكّر أكثر مما يتخيّل، يتأمل أكثر مما يتحرك، ويطمئن إلى فكرة أنه على حق، حتى لو تأخرت خطاه. ولعلّه، في جزءٍ عميق منه، لا يزال يُصدّق أن الفجر آتٍ، حتى لو طال الليل، حتى لو خفّ ضوءه حتى كاد يبهت.
فينا بقايا من الحلم الأول. لم تمت، لكنها اختبأت. فينا ما يكفي من الوعي لنقرأ تعقيدات اللحظة، وما يكفي من التعب لنؤجل الفعل إلى إشعار آخر. ومع ذلك، لا تزال فينا جذوة صغيرة، خجولة، لكنها حقيقية. نكتفي أحيانًا بوميض ضوءٍ من فكرة، أو من نيةٍ صادقة، أو من حوار لم يُقمع بعد. لا نحمل يقينًا، لكننا نحمل احتمالًا. ولا نرفع شعارات كبيرة، لكننا نُدوّن في دواخلنا جملة واحدة تتكرّر بهدوء: سنصل، ولو على مهل.
حين نفتح نافذة المستقبل، نريد أن نراه صافيًا، ولعلنا نريده ممكنًا. لا نُطالب أن يكون معجزة، لكن أن يكون نتيجةً لما نحن عليه حين نُحسن الإصغاء، وحين نتجاوز أنفسنا، لا سوانا فقط. نحن لا نطلب خلاصًا جماعيًا، بل خطوة فردية تتكرّر، وشعورًا داخليًا يعيد إلينا الشعور بالاتجاه، حتى لو لم يُحدّد بعد.
العتمة لا تزال، نعم، لكن الضوء لم يُطفأ. قد يكون خفيفًا، شحيحًا، غير كافٍ لرؤية المشهد كاملًا، لكنه كافٍ لنخطو، كافٍ لنفكر، كافٍ لنقول: لسنا في الظل تمامًا. ولسنا في العجز المطلق. ولعلّ هذا وحده، في زمن الإنهاك، انتصارٌ صغير… لكنه بداية.
فلنعد إلى العمق الذي يستحقه هذا السياق، حيث لا يكون "السعي" تبريرًا للهزيمة، ولا "البداية" حيلة لغوية لستر العجز، بل لحظة انبجاس داخلي تُولد فيها المعاني من رحم الإنهاك، لا رغماً عنه.
ولعلّ هذا وحده، في زمن الإنهاك، انتصارٌ صغير… لكنه بداية لا تُقاس بوقعها الظاهري، بل بما تُحدثه في وعينا من رجّة. فكل بداية
حقيقية لا تبدأ حين نصل، بل حين نكفّ عن العيش كأننا وصلنا. حين ندرك فجأة أن السير في الاتجاه الصحيح، ولو على أرضٍ مرتجفة، أكثر جدوى من البقاء في أماكننا نحفظ توازنًا زائفًا على أرضٍ آيلة للسقوط.
السعي، في زمن شُيّد على الإنكار، هو الفعل الأخلاقي الأول. لا لأنه يَعِدنا بالنجاة، بل لأنه ينجينا من خيانة الذات. أن نسعى لا لأن الطريق معبّد، بل رغم أنه موحل. لا لأن النتيجة مضمونة، بل لأن التراخي صار شراكة غير معلنة في استمرار العطب. فالبداية ليست ومضة أمل عاطفية، بل لحظة إدراك مؤلم أننا تأخرنا… وأننا، رغم ذلك، لا نزال نملك اليد التي تكتب، والرئة التي تهتف، والبصيرة التي ترفض أن يُحدَّد لها المعنى من الخارج.
أن نبدأ يعني أن نُراكم أفقًا جديدًا لا يخضع للخيبة، بل يتعلّم منها دون أن ينكسر. أن نعيد تعريف الانتصار: لا كغلبة، بل كخروج من الاصطفاف الإجباري. لا ككلمات تريحنا، بل كأفعال تُربك الذين اعتادوا منا الخنوع.
فما من شعوب بدأت من النور، كل النهايات الكبرى ولدت من شرارات بدائية، من اعتراف صغير، من خجل داخلي أن نبقى كما نحن. ولو لم يُثمر الضوء إلا هشاشة بسيطة تفضح العتمة، لكان كافيًا. لأن الهشاشة، إن امتلكت صدقًا، تقلب وجه الليل.
وهكذا تبدأ اللحظة التي لا تعود بعدها الأمور كما كانت… لا لأن الخارج تغيّر، بل لأننا تغيّرنا في طريق رؤيته. وهل هذا، في جوهره، إلا ما نسعى إليه؟