من الورق إلى الشاشة .. هل تحررنا من البيروقراطية؟
د. بشار المجالي
04-05-2025 03:27 PM
على مدى السنوات الأخيرة، قطعت الأردن خطوات لافتة في مسار التحول الرقمي، حتى بات مصطلح "الحكومة الإلكترونية" حاضراً بقوة في تصريحات المسؤولين، ومحوراً للحديث في المؤتمرات واللقاءات الرسمية. فتم إغلاق النوافذ الورقية التقليدية، وظهرت عشرات المنصات الإلكترونية التي يُفترض أن تُخفف على المواطنين عناء الانتظار والطوابير الطويلة.
لكن السؤال الجوهري يظل: هل ما نشهده هو تحول رقمي حقيقي؟ أم مجرد واجهة رقمية تُخفي تحتها نفس البيروقراطية القديمة، ولكن بصيغة جديدة؟
الواقع يُشير إلى أن الرقمنة، رغم أهميتها، لم تُحدث التغيير المنشود بعد. لقد انتقلنا من طوابير المكاتب إلى طوابير إلكترونية غير مرئية؛ من انتظار الموظف إلى انتظار النظام، ومن الملفات الورقية المتراكمة إلى واجهات رقمية معقدة تستنزف الوقت والجهد.
الرقمنة ليست هدفًا بحد ذاتها، بل وسيلة لتقديم خدمات أكثر كفاءة وكرامة للمواطن. ومع ذلك، ما زلنا نرى خدمات إلكترونية تفتقر لأبسط معايير الوضوح، وتعقيدًا في الإجراءات، ومواطنًا محتارًا في كيفية الاستخدام، وموظفًا عاجزًا عن التدخل بحجة "غياب الصلاحيات".
أحد الأصدقاء حدثني مؤخرًا عن محاولته إنجاز معاملة إعفاء لعاملة منزلية بسبب الحالة الصحية لوالدته. تنقل بين ثلاث وزارات، وتعرض لدوامة من الطلبات والمواعيد، ليُفاجأ بأن الكشف الطبي المطلوب حُدد بعد خمسة أشهر!
في حالة أخرى، قدّم شخص معاملة إلكترونية، وانتظر الرد أيامًا، وعندما راجع الجهة المعنية، قيل له: "الموظف المسؤول في إجازة، ولا يمكن لغيره متابعة الملف، لأن النظام مربوط باسمه فقط".
فهل هذا هو التحول الرقمي الذي نطمح إليه؟ أم أننا نعيش "بيروقراطية رقمية" أكثر تعقيدًا من سابقاتها؟
نحن لا ننكر أهمية الرقمنة، بل نؤكد على ضرورتها. لكن الرقمنة الحقيقية لا تكتمل إلا بتحول ثقافي وإداري عميق؛ يتطلب إعادة هندسة الإجراءات، وتحليل العمليات، وتصميم الخدمات من منظور المواطن، لا من منطلق السيطرة والرقابة.
ما نحتاجه هو عقلية جديدة لدى الموظف الحكومي، تؤمن بأن دوره خدمة الناس لا التحكم في مصيرهم، وتُدرك أن التقنية وسيلة لا غاية، وأن النجاح في التحول الرقمي يقاس بمدى رضا المواطن، لا بعدد المنصات التي أُنشئت.
لكي ننجح في بناء حكومة رقمية حقيقية، لا بد من مراجعة شاملة للثقافة المؤسسية، ومنظومة العمل الإداري، وتوفير التدريب الكافي للموظفين والمستخدمين على حد سواء. نحتاج إلى أنظمة ذكية، مرنة، ومتاحة، تُراعي الفوارق الفردية، وتُسهّل لا تُعقّد.
التحول الرقمي خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنه لن يكون كافيًا ما لم يصحبه إصلاح إداري عميق، يُعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة، ويجعل من التكنولوجيا أداة لخدمة الإنسان، لا عبئًا جديدًا عليه.