شاركنا اليوم في ملتقى علمي نظمته جامعة روشستر الأمريكية في دبي، تناول موضوعًا بالغ الأهمية "استشراف المستقبل" جمع الملتقى نخبة متميزة من المتحدثين والخبراء، وقدم رئيس الجامعة، البروفيسور يوسف العساف، مداخلة ثرية أضاء فيها على حقيقة لم تعد خفية: "لم يعد الاعتماد على التنبؤات والدراسات السابقة كافيًا" في عالم سريع التحول، متعدد الاتجاهات، ومتقلب الإيقاع. فالمستقبل لم يعد ينتظر، ولا يمكن مقاربته بالأدوات التقليدية.
ومنذ عام 2015، وبعد صدور كتابي المتخصص انا وزملاء، بعنوان "استشراف المستقبل وصناعته"، وأنا أحاول مقاربة مفهوم قد يبدو غريبًا للوهلة الأولى: هل يمكن أن يكون للمستقبل تاريخ؟ سؤال ظاهره التناقض، فالتاريخ يُروى عن الماضي، بينما المستقبل لم يُخلق بعد. لكن في العمق، تكمن حقيقة جوهرية: الأمم العظيمة لا تنتظر المستقبل حتى يقع، بل تبادر إلى صناعته. تكتبه سطرًا بسطر، عبر رؤى واضحة، وخطط مرنة، وعمل دؤوب لا يعرف التوقف.
في عالمنا المعاصر، لم تعد كتابة التاريخ مقتصرة على ما مضى من أحداث، بل بدأت بعض الدول والمؤسسات بكتابة ما يمكن تسميته بـ"تاريخ المستقبل". فمبادرات كـ"رؤية السعودية 2030"، و"رؤية الإمارات 2071"، و"رؤية الأردن 2033"، لا تُعد نبوءات بقدر ما هي عقود اجتماعية جديدة، تعبّر عن التزام استراتيجي طويل الأمد تجاه الأجيال القادمة. إنها محاولات واعية لترسيخ ملامح مستقبل مرغوب، تُبنى انطلاقًا من الحاضر، وتستند إلى فهم عميق للماضي واستيعاب دقائقه.
ولأن التخطيط لا يكفي دون أدوات، يلجأ صانعو القرار إلى منهجيات علمية تساعدهم على قراءة المستقبل بوضوح نسبي. من هذه الأدوات: بناء السيناريوهات، وتحليل الاتجاهات الكبرى، والنماذج التنبؤية. هذه المنهجيات تحوّل الغموض إلى فرص، وتسمح بتوجيه السياسات نحو مسارات قابلة للتحقق. وبهذه الطريقة، يصبح المستقبل ليس فقط مساحة للانتظار، بل مجالًا للعمل والتشكيل.
في صلب هذه المعادلة، تقف "التكنولوجيا" كأداة محورية لكتابة هذا التاريخ الجديد. فالذكاء الاصطناعي، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والطاقة المتجددة، وسلاسل الكتل "البلوكتشين"، ليست مجرد تقنيات، بل تحولات هيكلية تشبه في تأثيرها ما أحدثته الثورة الصناعية في القرون الماضية. إنها الحبر الذي يُكتب به المستقبل، وأحيانًا القلم ذاته.
ومع ذلك، يبقى سؤال جوهري: هل المستقبل محايد؟ أم أنه يحمل بصمة من يخطط له؟ الواقع أن المستقبل ليس أرضًا بلا معالم، بل هو نتيجة مباشرة لاختياراتنا اليوم. الدول التي تستثمر في "التعليم"، وتبني أنظمة "حوكمة عادلة"، وتراعي "البيئة" و"العدالة الاجتماعية"، تكتب مستقبلًا مزدهرًا. أما من يتعامل مع المتغيرات "بردّ فعل" فقط، فإنه غالبًا ما يجد نفسه مجرد "تابع" لما يقرره الآخرون.
إن مفهوم "تاريخ المستقبل" وصناعته لم يعد رفاهية فكرية، بل أصبح علمًا استراتيجيًا يعكس إرادة الشعوب وجرأتها في مواجهة المجهول. إنه دعوة لتجاوز التردد، وتحمّل مسؤولية كتابة ما لم يُكتب بعد. فالمستقبل لا ينتظر أحدًا، ومن يصل إليه أولًا يمتلك زمام المبادرة ويصنع الفارق. أما من يتخلى عن دوره في الاستشراف والابتكار وصناعة مستقبله، فسيجد أن الآخرين قد كتبوه عنه... وربما ليس كما أراد. والسبيل لذلك يبدأ من الداخل، من "رشاقة في المخ أولًا"، لأنها وحدها القادرة على إدراك التحولات، والتعامل مع التعقيد، والتحرّك بخفة نحو ما هو قادم.