facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




القدس .. حين تتكلّم الحجارة وتَصمتُ السماء


كابتن اسامة شقمان
07-05-2025 12:57 AM

زرتُ القدس في صباحٍ لا يُنسى... لم تكن الشمس فيه أدفأ من عادتها، ولا السماء أكثر زرقة، لكنني كنت أنا مختلفًا. دخلتُها كما يعود الغريب إلى أمّه التي لم يلمس دفءَ حضنها يومًا، ومع ذلك، يعرفها من أول نظرة، كما تُعرف الروح أختها.

أتذكر – ولا أزال أذكر جيدًا – كيف أخذني والدي، رحمه الله، وأنا طفل صغير، لنُصلّي في المسجد الأقصى يوم جمعة. كنت أمسك بيدي الصغيرة يد أبي رحمه الله، غير مدرك أنني أمشي على الأرض التي مشى عليها الأنبياء. تلك الرحلة، وإن كانت قصيرة في الزمن، ظلت طويلة في ذاكرتي.

ومرّت الأعوام… أكثر من خمسين عامًا، والمدينة تسكنني وأنا أبتعد عنها. حتى كتب الله لي أن أعود إليها، لا كطفل، بل كرجل يعمل في شركة طيران "الأجنحة العربية". عدتُ كأنني أعود إلى الجزء المفقود من قلبي.

في القدس، لا تسير وحدك.

يسير معك تاريخ الأرض، وأرواح الأنبياء، وخطوات المصلين، ودماء الشهداء. يسير ظلّ أبي، رغم أنه غاب منذ أعوام، ويسير خلفي طفل لم يولد بعد، ربما حفيدي... جاء ليستمع للدرس قبل أن تكتمل ملامحه.

القباب، والمآذن، والأجراس... كلها تهمس بلغة واحدة:

"من أراد أن يعرف سرّ الإنسان، فليأتِ إلى القدس."

في القدس، لا تعرف الزمن كما تعرفه في بقية المدن. الدقيقة قد تكون قرنًا، واللحظة قد تحمل ألف رواية. هنا، تسكن الأسرار بين الحجارة، وتتنفّس الحكايات من نوافذ البيوت العتيقة.

رأيت الجنود مدجّجين بالسلاح، لكنهم يحملون في أعينهم ما هو أضعف من الرصاص: الخوف.

يخشون حجارة طفل، أو نظرة أمّ، أو دعاء شيخ. فالمحتلّ، مهما بدا قويًا، يحتاج إلى جدار وكاميرا وبندقية ليقنع نفسه أنه لا يزال يسيطر.

أما أهل القدس، فتكفيهم الوقفة.

يقفون على أعتاب بيوتهم كما تقف الجبال، بلا سلاح... سوى الصبر.

امرأة تزرع نعنعًا على سطح بيتها في سلوان، كأنها تزرع أملاً.
طفل يوزّع التمر على المصلين عند باب العمود، كأنه يوزّع ذاكرة.
شابّ يرفع الأذان من على سطح مهدّم، رغم منعهم.
وكلهم، حين يُسألون: "من أنتم؟"
يجيبون: "نحن حُرّاس الفكرة."

وقفتُ أمام قبة الصخرة، لم أُصلِّ، بل أنصتُّ.

أنصتُّ لحوارٍ خفي بين السماء والأرض.

السماء قالت:
"من هنا بعثتُ أنبيائي."

فأجابت الأرض:
"ومن هنا دفعتُ دماء أحبّائي، لأحفظ الرسالة حيّة."

قلت لنفسي:

"من هنا مرّ إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد...

ومع ذلك، لا زال الناس يتقاتلون على الباب."

فهمتُ يومها أن القدس لا تحتاج إلى من يمتلكها، بل إلى من يفهمها.

القدس لا تُقاس بالأمتار، بل بالعزيمة.
ولا تُحاصَر بالجدران، بل تسكن الأرواح.
هي مدينة تحت الاحتلال، نعم...
لكنها أيضًا تحت الرعاية الإلهية.

رأيت شجرة زيتون عمرها ألف عام، لم تقل شيئًا، لكنها كانت تقول كل شيء. تذكرت عندها القول القديم:

"من لا يستطيع أن يموت من أجل شجرة، لا يستحق أن يعيش في ظلّها."

وأنا أغادر المدينة، لم أعد كما كنت.

لم أعد أخاف الموت، لأنني رأيت ما هو أقدس من الحياة:
أن تبقى واقفًا حين يُراد لك أن تنكسر.

لهذا أكتب إليكم، يا أولادي، يا أحفادي، وكل من يقرأ هذه الحروف:

لا تسألوا: "لمن القدس؟"

بل اسألوا: "هل القدس تعيش فينا؟ أم أننا فقدنا الطريق إليها؟"

القدس ليست حجارة.
القدس معنى.

والمعنى لا يُحرَّر بالسلاح وحده، بل بالمعرفة، بالإيمان، بالكرامة، وبالوقوف الصادق.

إن قيل لكم ذات يوم: "أنتم لا تملكون شيئًا."
فردّوا بثقة: "بل نملك مدينة تمشي في أرواحنا... اسمها القدس."





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :