كسرة الخبز التي تقاسمناها
أ.د سلطان المعاني
10-05-2025 10:42 AM
كسرة الخبز التي تقاسمناها، نَفَسُ الخبز ودمعة الماء. أهي كسرة؟ أم شهقة ترابٍ جفّت فيه عروق السنابل، فوهبناها من أفئدتنا رطوبة الحياة؟ سكنت كفّين مجهدتين، تشقّقتا من ليل السعي، وفيهما ظلّ من نورٍ لا يُقاس بالميزان. تُنثر كما تُنثر الشعل في دروب الغياب، تُنير قلب الجائع قبل أن تبلغ فمه، ويهتدي بها التائه حين تتقطّع أسباب القوت.
ما نُظر إليها كزاد، إنّما رآها الكريم عهدًا، يعلّقها على ناصية الجوع فتُكسَر شوكته، وتُعلي من شأن العطاء في أزمنة التقشّف. منحت غيرنا منّا، وابتسمنا. فالمعنى يسكن موضعًا في الروح، متى اغتُسل بنية الطُهر، صار أعظم من أي فمٍ شبع.
وشربة الماء... نفحة من سيرة النخوة، تُسكب كأنها سرٌّ من أسرار الندى حين يهبط على قلوبٍ تتوق للعطاء أكثر من التروّي.
دار الإناء بين الأيدي، يتقدّم ثم يتراجع، يُمسك به العطشان كمن يمسك بالوعد، ثم يمرّره كأنما يمنح الروح امتدادها في جسدٍ آخر. حين وصل إلى الكف الأولى، توقّف الزمن لحظة، ثم ارتدّ الإناء خفيفًا، مُحمّلًا بثقل المروءة. سال الماء فوق التراب، فاهتزّت الأرض كأنها سجدت، وتفتّحت من بين الحصى زهرة لا تشرب إلا من يدٍ أبت إلّا أن تُؤثِر. من آثر الشرب في الآخر، صعد مرتقى الرجولة، وتسامى، كمن ارتفع فوق الظمأ، واستوى على عرش الشهامة.
نهجنا... ليس خطًّا مرسومًا على خرائط الغزاة، إنّما صهيلٌ ما زال يتردّد في ذاكرة الأرض، حيث لم تُولد الخيل، بل انبثقت من باطن الرمل حين تعاهدت الكرامة على أن تُولد كل يوم من خطوٍ لا يخون. نحن رجعُ الصهيل حين يُطوّق الليل الحقول، نحن دفء المجالس حين يجفّ وجه الزمن ويكفهرّ.
المضافة حين نخيط جدرانها من عروقنا، تشتعل كلّما مرّ بها عابر، فيضيء ليله من جمرة الكرامة، ويستظل بنورٍ نسجته يدٌ جادت قبل أن تُسأل. أبوابنا ليست خشبًا ومزالج، إنما حناجر الترحيب، وملامح العيون حين تستبشر بالقادم من سفر. مفاتيحها في يد من احتاج، يُديرها بعطشه، فتُفتح له الأرواح قبل السقوف. من مرّ بها، ترك خلفه عناء المسير، وجلس كأنّه عاد إلى بيته الأول. سُقي من قلبٍ مفتوح، وأُكرم كأن اسمه نقشٌ في جذع النسب، وإن لم يُذكر. وجهه دليل، وصوته شفاعة، وهيئته خريطة العابرين من دروب النية الصافية. في العيون يُقرأ المُبتغى، ومن صفاء السحنة تُؤخذ المواقف. وحين يشتدّ الحصار على القلب، ينشق فيه أفقٌ أوسع، كأن الكرم لا يُولد في سعة، بل حين يضيق العيش فتتّسع النوايا. فالكريم حين يضيق رزقه، لا ينكمش، بل يُنبت من ضلوعه رغيفًا آخر، ويشقّ من عروقه جدول ماء جديد.
وللكريم أنفاس لا تُقاس بطول الصبر، إنما تُحسّ بوهجها حين يخفت وهج الحِلم. سكونه يشبه وجه البحر قبل الوثوب، ماؤه صافٍ، وفوقه سلام، وتحت سطحه عزمٌ ينتظر لحظة الانبثاق. يمضي متجاوزًا، كأن الأذى لا يُلامس أطراف روحه، لكنه يُدوّن في الأعماق، حيث تُصاغ القرارات من نارٍ لا تُرى. وحين يبلغ الحدّ، يرتفع بصره كقنديلٍ في ليلٍ كثيف، فيه نورٌ لا يفضح، بل يكشف.
حين ينظر، تخفُت الأصوات، وتتشظى صخور الزهو تحت وقع الهيبة. لا حاجة لصوتٍ عالٍ، ولا لوعيد. يكفي أن يقول ما يدلّ على أن الكيل قد بلغ منتهاه، حتى تتبدّل ألوان المشهد، وتنكشف الأقنعة، وتتهاوى الأبنية التي بُنيت على الغرور. غضبة الكريم وميض من عدالة مضمّخة بالحِلم، تُباغت كالمطر، وتُطهر الأرض من أثر الغطرسة. يُحسّ بها من تعامى، ويتهاوى تحتها من ظنّ أن الصمت عجز، وأن الترفّع غفلة.
هي عدلٌ إذا تراكم عليه الغبار، نهض من تحت ركامه كالفجر حين يطرد آخر نجمةٍ من ليلٍ طال. حِلمٌ اتّسعت رقعته حتى ظنّه الجاهلون ضعفًا، فلما تجرّأ عليه الغي، انتفض كما تنتفض الأرض من زلزال الصمت. نارٌ لا تطرق الأبواب، تدخل حيث يجب أن تُطهَّر القلوب، وحين تُنجز رسالتها، تنام في رمادها، مطمئنة، أن الميزان قد استقام.
فاكتبوا في صدور الدهر، لا في هامشه:
من كسرة تقاسَمْناها بين جوعَين، وماءٍ سكبناه في يدٍ غير يدنا، نمت نخلة لا تنحني، باسقة، جذعها من صبر، وسعفها من مروءة.
وإذا هبّت رياحها، سقط كل ظلٍ مموّه، وانكشفت الأرض كما هي: لا مقام فيها إلّا للجذر الأصيل.
كسرة الخبز التي تقاسمناها لم تكن خبزًا، بل عهدًا من نار وماء، من تراب نضح بدمع الجدّات حين جفّت السنابل وانتظرنا الحصاد. ما مرّت بين أيدينا كأي طعام، بل عبرت كوصيّة من زمن الجوع حين لم يكن للكرامة مخزنٌ سوى الأرواح. تلك الكسرة، كانت ختمًا على رقاع الوفاء، وقعناها بأصابع مقروحةٍ من حرث الكفاف، وسلّمناها كعقد شراكة في بيوت الطين وسقوف القصب.
وشربة الماء التي آثرنا بها وفينا خصاصة، ما سكنت الجوف، بل أروت وجدانًا منغمسًا في فطرة السخاء. سالت على اللسان ببرودةٍ نادرةٍ ثم استقرت في القلب كاليمّ، دافئةً بما يكفي لتذيب كل صقيعٍ بين الأرواح، خفيفةً على الحلق، ثقيلةً في ميزان الكرم.
نهجمنا عروبي، من صرخة المهد إلى شهقة القبر، لم نكن طينًا طيّعًا بل صخورًا من عزّة، تشقّ الأرض حيث مرّت. أبوابنا ليست خشبًا ومزاليج، بل أفئدةٌ موصولة بسماءٍ رحيمة، كل من طرقها وجد ظلًّا وسُكينة. من نزل ضيفًا بات منا، من لجأ صار حرزًا في أعيننا، من ناحَ سقيناه، ومن نام على جراحه أقمنا له حُرّاس الحلم.
حين يضيق على الكريم، لا يئن، بل ينهض، يخلع ثوبه المطرّز بالعفو ويرتدي لهبًا من بأس، يطأ الأرض فلا تعود كما كانت، يرفع الحرف فيغدو سيفًا، ويهمس، فإذا الجبال تنحني لمهابته. غضبة الكريم ليست سُبابًا ولا عتابًا، بل وصيّة تُتلى على من نسي أن في وجه المروءة برقًا لا يُغضّ الطرف عنه.
فاحذروا غضبة الكريم... فإنها إن أقبلت، ما تركت على الأرض قلبًا متجبّرًا إلا وكسّرته كما تُكسر الأصنام.