يبني الإنسان حين يتجلى الوعي، حين تصير اليد أداةً للفكرة، والحجر جسداً للمعنى. يبني حين يتجاوز الخوف، حين ينشد البقاء، ويتشهى الأثر. الحضارة انبثاقُ روحٍ في المادة، إشراق داخليّ يبحث عن لغة ليتجسّد. من هنا كانت المعابد أوّل الشعر، والنقوش أولى الكتب، والتماثيل صلواتٍ متجسدة في وجوه. يبني الإنسان لأن اللغة تضيق عن اتساعه، فيستعين بالحجر كي يقول ما لا يُقال. يبنيه ليسكن فيه.
لكن الإنسان، في المقابل، كائن شقّي، يحمل في داخله القادر على الإبداع، كما يحمل البذرة التي تشتاق إلى المحو. يهدم، لأنه ضاق بما كان. حين لا يعود الأثر امتداداً له، يتحوّل في عينه إلى خصم. يرى فيه تاريخاً لا يمثله، فيضربه. يرى فيه مرآةً تُعيد وجهه الحقيقي، فيكسرها. يهدم لأن في الهدم خلاصاً من مرآة الهوية، من عبء الأسئلة، من سطوة الزمن.
كل تمثال مكسور هو صورة الإنسان وهو يفتك بذاته. كل عمود مهدوم هو اعتراف بأن القوة تخاف من الذاكرة. حين نسفت تماثيل بوذا، لم يُرد الجهل أن يزيل صنماً، بل أن يُسكت ذاكرة حجرت نفسها في الجدار. حين تهاوت تدمر، سقط سؤالٌ قديم: "ما الذي يجعل الإنسان إنساناً؟"
في الكتابة على الجدران القديمة، توجد حروف، وآثار أصابع. كل أثرٍ هو توقيع كائنٍ أراد أن يقول: "كنت هنا، وفهمت العالم على طريقتي." فالهدم يحاول أن يُخرس الصوت. ومن هنا تصبح المعركة على الأثر معركة ضد النسيان، ضد محو الوعي، ضد الخروج من دائرة الزمن.
في ترميم الآثار، نعيد ترميم الإنسان. حين يُعاد بناء الجسور، فإن ما يُعاد وصله وجهين للهوية، جانبين للذاكرة، شطرين من السؤال. حين يُعاد فتح متحف بيروت، فإننا نُشعل الذاكرة كي لا تنام. الترميم هو شكل من أشكال الصلاة الحديثة، حيث يكون الغراء طقساً، والتوثيق عقيدة، والمسح الرقمي وِردًا من أذكار البقاء.
هكذا تتحول الصورة إلى نصّ، والركام إلى بيان فلسفي، وكل موقع أثريّ إلى جرح مفتوح في جسد الزمن. من يرى الصور يرى الإنسان حين أحبّ، والإنسان حين خاف، والإنسان حين خسر. الحضارة إذن، أشياء تُشيَّد، واشياء تُختبَر. ومرآة تعكس الماضي، بل وتكشف الحاضر، وتسائل المستقبل.
والمفارقة، أن الإنسان يبني كي يُخلِّد، ويهدم كي ينسى، لكنه في الحالتين يصرّ على أن يترك أثراً. حتى في التدمير، ثمة توقيع. حتى في الحرق، ثمة أثر للرماد.
فيا لهذا الكائن: يصعد في العمارة إلى حيث لا يبلغه الطير، ثم يعود ليهوي بيديه على ما بناه كأن فيه اشتياقاً دفيناً للعدم. يصوغ من الحجر قصيدة، ثم يغتالها كأن المعنى أثقل من أن يُحتمَل.
وهكذا تستمر الحكاية، بين يدٍ تنقش، ويدٍ تمحو. بين من يرى في الأثر وعداً، ومن يراه وعيداً. بين من يقيم العمارة ليحيا بها، ومن يهدمها كي لا يُذكِّره شيءٌ بأنه كان، وكان جميلاً.
الأثر هو ما أراد أن يبقى، هو كتابة خارج اللغة، نقشٌ في جلد الزمن، يُقرأ بالبصيرة. الأثر يكشف كيف رأى الكائن نفسه في الوجود. التمثال يُجسّد مفهوماً عن القوة، عن القداسة، عن الجمال، عن حضور الإنسان في قلب العالم. في علم العلامات، كل أثر هو علامة، وكل علامة هي اتفاقٌ صامت بين المرسِل والمستقبل. فحين نرى معبداً آشورياً أو قوساً رومانياً أو جداريات مصرية، نحن نرى نظاماً كاملاً من القيم والمخاوف والطموحات وقد تحوّل إلى هيئة. هذا هو الأثر: شكل يحمل مضموناً لا يُقال، لكنه يُلمَس. وهذا هو سرّه: أنه قادر على قول ما لا يُقال، لأنه يعتمد على تجسيد الفكرة في مادتها. الأثر هو البصمة، والبصمة لا تتكرّر. وكل محاولة لمحوها هو اعتداء على الماضي، ومحاولة لتدمير احتمال المستقبل.
الرماد لغة الفناء المتوهّج، والرماد ما تخلفه الرغبة في المحو. إنه اللغة التي يكتب بها الخراب نصّه الأخير. في الرماد، تتساوى الأشياء: التمثال والنقش والمخطوطة والذاكرة، جميعها تصير نثاراً رمادياً لا يحمل شكلاً، لكنه يفضح النية. في لحظة الاشتعال، يتحول الأثر إلى شاهد صامت على لحظة الجنون، على هجوم الإنسان على ذاته.
وهنا يصبح للرماد وظيفة سيميائية مضاعفة، يدلّ على ما كان، ويدل على جريمة الحذف. هو أثرٌ للأثر، وصورة للغياب. كأنّ النار حين تنتهي، تترك شاهداً صغيراً على ما التهمته، ليُتذكّر أن هناك من أراد أن يُخرس الزمن. في رماد المكتبات، في رماد المتاحف، في رماد المدن، نقرأ أسماءً لا تظهر، ونلمس أصواتاً لم تعد تُسمع. الرماد يتكلم، لكن صوته حارق.