الذاكرة البصرية ما يختار القلب أن يحتفظ به عبر العين. حين يرى الإنسان أثراً، يراه كما يشعر نحوه. من هنا فإن الصورة مرآة شعورية له. الصورة تتسلل من البصر إلى الروح، وتظل هناك، مختبئة في اللاوعي، حتّى يأتي الزمن الذي تُستدعى فيه لتُذكّر، أو لتُعلّم، أو لتُحذّر. الصور مقامات من الألم والتأمل. كل صورة تمثّل التقاءً بين ما حدث وما يُراد أن يُقال. إنها مشهدية تصوغ سردية جديدة من مادة الصدمة؛ صورة الجسر المحطّم، صورة التمثال المنهار، صورة القاعة الفارغة... كلها موجعه، فكل نظرة إليها تُعيد كتابة الحكاية من جديد. الذاكرة البصرية مقاومة ضد التبخر، والنسيان، محو المعنى. إنها اللغة الأخيرة حين تفشل الكلمات. وحين لا تعود الحجارة قادرة على الوقوف، تقف الصورة.
في الأثر إصرار على البقاء، في الرماد كشف عن الخيانة، وفي الذاكرة البصرية، مقاومة ضد الظلام. وهكذا نرى الآثار كائنات حيّة تحمل المعنى على أكتافها، وتنتظر من يقرأها بذاته. لأن الحضارة ما نختار حفظه في قلوبنا.
الدمار أحد تجليات البناء المقلوبة، إنه خطابٌ صاخب بلغة القسوة، يعلو حين تفقد اللغة طاقتها على الحوار. كل أثر مدمَّر يقول "كنتُ هنا"، فأنا المقصود بالإلغاء. الهدم يستهدف الحجر كونه شاهداً، فأنت تمحو سردية، تمحو صوتاً قديماً لا تزال أصداؤه تقلقك.
في سياق الأثر، يتحوّل الدمار إلى نظامٍ دلالي؛ فالأنقاض إشارات، وحين تُكسر يد تمثال، فذلك محوٌ لفعلٍ كان يعبّر عن قدرة أو صلاة، وحين يُمحى وجهٌ، فذلك نفيٌ لهوية. وحين تُنتزع الكتابة من جدار، فذلك إعلانٌ بعدم شرعية الحكاية.
السيمياء هنا تُقرأ في المفقود، والنصّ يُدوَّن بالفجوة، بالخراب، بما لم يعد موجوداً. في هذا الدمار يتجلّى إنسان يخاف من صورة الإنسان الذي سبقه، فيقتله مرتين: مرة حين لا يشبهه، ومرة حين يُلغيه.
ويقاس الزمن بما يتركه على الجلد، وعلى الصخر، وعلى الوجوه. الحجر، وحده، هو ما يصمد للزمن دون أن يفقد ذاكرته. فبينما يذوب الجسد، ويتآكل الورق، تظل الحجارة تنقل ما عجزت الكلمات عن تخزينه. الحجر هو اللغة الأولى التي كتب بها الإنسان تاريخه؛ بأشكال، بفراغات، بتوازنات؛ فكل معبد قديم هو ساعة شمسية، وكل قوس هو قياسٌ للعبور.
والزمن في هذه المباني طاقة مكدّسة، تختزن في تناسق الأعمدة، في صدأ المعدن، في نعومة الموضع الذي تآكل من كثرة اللمس. في الزمن والحجر علاقة عشق قديمة؛ الحجر يستدعي الزمن ليمنحه معنى، والزمن يختار الحجر ليجعل منه صفحةً يكتب عليها الإنسان حضوره. وعندما يُدمَّر هذا الحجر، فإن الزمن نفسه يُصاب بثقب، فما يهدمه الإنسان اليوم، هو الحيز الذي كان سيمنح أبناءه نافذة على ما كان ممكناً أن يُفهَم.
الصمت الذي يخيّم على الأطلال نوع من البلاغة المتعالية، لا شيء أكثر امتلاءً من معبد مهجور، من تمثال مبتور، من جدار لا ظلّ عليه. هذا الصمت لا يخلو من الصوت، يحتويه بشكل آخر، كأن العالم نفسه قد قرر أن يحبس أنفاسه لحظةً، كي يتيح للغائب أن يتكلم. بلاغة الأطلال تكمن في أنّها تفتح مساحات للتأمل، كأن كل عمود مهدوم يسأل: ماذا حدث؟ من كان هنا؟ من غاب؟ كأن كل فراغ هو سؤال مفتوح، يُجاب عليه بلغة التخيّل والحداد.
الصمت في حضرة الأطلال طقس عبور. وهو صمت لا يفهمه إلّا من يحمل في داخله حسّ الخسارة، من ذاق طعم الغياب، من يعرف أن الحقيقة تُلمس في الهواء، في الشقوق، في الحجارة التي صارت كالعظام.
وهكذا، تصبح الأطلال أناجيل مفتوحة، يُقرأ فيها الإنسان كما يُقرأ في القصائد: على ما كُتب، وعلى ما حُذِف، وعلى ما ظلّ بين السطور.
في الدمار تكشّفٌ للنية، وفي الحجر احتباسٌ للزمن، وفي الأطلال بيانٌ بالصمت، لمن يعرف أن الإصغاء أحياناً، أقرب إلى الحقيقة من الكلام.
فماذا يخبئ خراب حاضرنا من ذاكرة بصرية لزمنٍ قادم؟.