المكان الأردني وحضوره التاريخي
أ.د سلطان المعاني
13-05-2025 10:59 AM
كأنّ الأرضَ حين أرادت أن تتجسّد قصيدةً، اختارت الأردن بيتًا أولًا… فانبثقت الجبال كقوافٍ شاهقة، وامتدّت الأودية كاستعاراتٍ لا تنتهي، وصار الترابُ نفسه ذاكرةً تحفظ أسماءً لا تُنسى. الأردن… لا يُولد من الجغرافيا، بل من المجاز. رقعةٌ من الأرض كُتبت لا بالحبر، بل بدم الممالك، وبصبرِ الأمهات، وبأحلامٍ لم تَغفُ، حتى حين غفَت الدنيا من حولها.
في البدءِ لم تكن البلادُ سوى احتمالاتٍ للفراغ، حتى نزل التاريخُ على هذه الأرض فأزهرت، وصارت البترا تصوغُ الصخرَ صلاةً، وجرش تنقشُ على الأعمدةِ حنينًا لا يشيخ. ما من أرضٍ يُمسكها المعنى كما يفعل بالأردن؛ فهنا، لا تتحرّك الريح إلا وفي كُمّها حكاية، ولا يسقط ظلٌّ إلا وتحتَهُ سردٌ عميق، ولا يُطلُّ فجرٌ إلا وقد لامس كتفَ نبيٍّ أو شهيد.
هنا، لا المكانُ مكان، ولا الزمانُ زمان… بل كلاهما استعارةٌ كبرى، تُتلى على جبين الوطن كما تُتلى السور المقدّسة. هذا الأردن: مشهدٌ أبديٌّ يتكرّر كلّما احتجنا إلى المعنى.
في الأردن، ينثالُ المكانُ كقصيدةٍ كُتبت بماءِ الذهبِ، وكأنّ الله حين سكَب الجمالَ في الجغرافيا، جعل له بيتًا في هذه الأرض. أرضٌ ما بين الغورِ وسلسلةِ الشراه، بين باديةٍ تُصغي لتراتيلِ الريح، وسهولٍ تكتنزُ الذهبَ في سنابلها، وجبالٍ تنامُ وفي حلمها رُؤى الأنبياء.
هنا، حيث البترا نبوءةُ الصخر، إذ نَحتَ الأردنيون الجمالَ فصار له جسدٌ من حجر، وصوتٌ يُسمع ويُحَسّ. السيقُ بوّابةٌ نحو أسطورة، تُصافحكَ ظلالُها قبل أن تصلَ، وتُخبركَ بأنك ستدخل مدينةً نحتت لدهشةٍ أبدية. وفي جرش حين تمشي في شوارعها المُبلّطة بالحكايات، تسمع وقعَ أقدامِ الرومان، وتشمُّ عطرَ الزمن الكلاسيكي وهو يتسرّب من الشقوق. المسرحُ هناك لا يزال يتنفّسُ التصفيق، وتهمسُ الأعمدةُ: نحنُ شاهدون، لا نهرم. وفي الكرك، تحتشدُ القرونُ فوقَ القلعة، حجارةٌ تصعدُ كأنها تكبيرةُ نصر، وجدرانٌ تحفظُ في قلبها صدى صيحاتِ جنودٍ رابطوا على الثغور. الكرك قلعة، والكرك شاهدُ إثباتٍ على أن العرب إذا عشقوا الأرض، صاروا لها سيوفًا وعرائسَ نار.
وتأتي عمّان، المدينة التي تمشي بخطى المدن الكبرى، لكنّها تحتفظُ في جعبتها برقعًا من الشَّعر النبطيّ، وقلادةً من الفسيفساء البيزنطية، ومنديلًا أهداه لها الحسين. هي عاصمة الزمان، وذاكرةٌ تسير، ووجهٌ تراه في المرايا فتبتسمُ للحضارة، وتشكرُ للحداثةِ انحناءها أمام التاريخ.
وفي البادية، الصامتة التي تُشبهُ قيام الليل، امتلاءٌ بالخفيِّ من المعنى. رملُها يكتُب الشعرَ حين تهبّ عليه الريح، ومجالسُها تُنصتُ للحكاياتِ فتوقظُ أنسابًا وأمجادًا. من هناك خرج الحرفُ العربيُّ مبجَّلًا، ولبسَ العباءةَ والسيف. وفي وادي رم، يشهقُ الجمالُ حتى يخرّ صامتًا. الجبالُ هناك تُرتّل، تشبه مزاميرَ الديانات وقد سُكِبت على الرمل، وتُحاكي لوحاتٍ سريالية رسمتها يدُ الخالق جلّ علاه. حين تطأ قدماك ذلك الوادي، تصير فردًا في ملحمةٍ خرافية، نصفها رؤيا، ونصفها يقين.
الأردن، أيها السائلُ عن مكانٍ له قلبٌ وروح، فضاءٌ يتّسعُ للأسطورة، لدروب الأنبياء، لصهيلِ الخيولِ في مؤتة، لدمعةِ يتيمٍ في مخيّم، ولزغرودةِ أمٍّ تزرعُ طفلَها في ترابِ الوطن كأنه شجرة.
والأردنيّ، ابنُ هذا المكان، يُشبه المكان فهو امتداده. كأنّ الأرض صاغت ملامحه، وجعلت قلبه صلدًا كحجر الشراه، وعينيه نديةً كندى عجلون، وصوته جَهيرًا كالمؤذن في الفجر. هو الإنسانُ الذي يحملُ جيناتِ المكان، فتراه في معسكراتِ الجيش، في بساتين الأغوار، في قاعات الجامعات، في معابر اللجوء، وكلّه ينطق: أنا الأرضُ وأنا التاريخُ.
هكذا يبدو الأردن حين يُكتب بلغة القلب. هو المكانُ الذي إذا نطقتَه، صار شعرًا، وإذا سجدتَ فيه، صرتَ ولياً، وإذا نظرتَ إلى سمائه، شعرتَ أن المجد يمرّ عليك في قطيعِ غيم.