facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




سردية القوميات


أ.د سلطان المعاني
14-05-2025 11:57 AM

في زمن ما، حين كانت القبائل تروي حكاياتها حول النار، وُلدت بذور القومية دون أن تُسمى. كان الناس يلتقون على مائدة واحدة، يضحكون للقصص نفسها، ويحزنون للفقد ذاته. لم يكونوا بحاجة لتعريف أنفسهم، كانت الهوية تسير بينهم كأنها نسغ في الشجر، لا تُرى لكنها تحرّك الأوراق. بمرور الوقت، صارت القصص أكثر من مجرد تسلية، أصبحت مرآة، وسيفًا، وأرضًا خفية يقفون عليها حين تتزلزل الأرض من تحت أقدامهم.

في المدن التي تغيرت أسماؤها كثيرًا، وفي الحقول التي نُقشت فيها الحكايات على الحجارة، تشكّل شعور غريب، شعور أن هناك "نحن" متينة لا تُختصر في الأسماء أو الأعراق. الناس الذين يتكلمون لغة واحدة، حتى حين يختلفون في نطقها، يظنون أنهم أقرب لبعضهم من الغريب الذي يسكن الجهة الأخرى من النهر. وبين هؤلاء، تتكون ملامح جماعة ترى في نفسها كيانًا ذا معنى، شيئًا يستحق أن يُروى وأن يُدافع عنه.

ولم يكن التاريخ طيبًا دائمًا مع القوميات. فكثيرًا ما جعلها تركض مذعورة خلف ماضيها، تبحث عن اسم، عن راية، عن مكان تنتمي إليه. وفي كل مرة تتعرض لهزة، تعود وتتمسك بما هو أعمق من الحدود، كأن الذاكرة تصبح وطنًا حين تُسلب الأرض. وفي السجون، كما في الملاجئ، تنمو فكرة القومية كقصيدة تُكتب بالدمع، لا بالحبر.

هناك من وجد قوميته في اللغة، في مفردة لا تُترجم، في نكتة لا تُفهم خارج السياق، في أغنية تعرفها الجدة وتبكي حين تسمعها. وهناك من وجدها في الحكايات، في الشهداء الذين صاروا أغاني، في المدن التي هُدمت وظلّت قائمة في الحنين. لم تكن القومية نتيجة تشابه في الوجوه، وإنما لقاء في الإحساس. مزيج من الرغبة بأن نكون معًا، وأن نحمل عن بعضنا ألم الطريق، حتى لو مشيناه بأقدام مختلفة.

وفي كل مكان سكنته ذاكرة جماعية، كانت القومية تنمو كزهرة بين الحجارة. لا تطلب إثباتًا، ولا تشرح نفسها، فقط تظهر في النظرات، في الرغبة بأن يكون الغد مشتركًا. فالقومية ليست وعدًا بالماضي، وإنما اعتراف بأن الحكاية لا تُروى إلا حين نكون معًا. القومية ليست ذكرى لحدث واحد ولا ردة فعل لمحنة عابرة، إنها سياق طويل من التراكم، تشكّل ببطء في الظلال بين الكلمات والوجوه.
ليست مرئية إلا حين تهتز الأرض، ولا محسوسة إلا حين يغيب ما يربطنا. في اللحظة التي يشعر فيها الفرد بأنه ليس وحده، وأن هناك آخرين يتشاركون الوجع ذاته، والنشيد ذاته، والارتباك ذاته حين تُذكر أسماء المدن القديمة—تولد القومية في الداخل دون أن تعلن نفسها. قد لا يُنطق اسمها، لكنها تُلمَح في الالتفاتة، في الإيماءة، في حنين لا يحتاج إلى مبرر.

حين يُذكر اسم المكان، يعود حاملًا لطبقات كثيفة من الشعور، من القصص التي لم تُكتب، من الأغاني التي لم تُسجل، لكنها تسكن في الفم كأنها وُجدت منذ الأزل. تتسلل القومية من هذه التفاصيل الصغيرة، من أسماء الطعام، من نكهة القهوة، من رائحة الخبز في الحارات، من دعاء الأم حين يغادر ابنها في الصباح. لا تحتاج إلى خطابٍ لتُفهم، ولا إلى عقيدة لتُؤمن بها، فهي تسبق الخطاب وتتشكل خارج العقائد.

في كل لحظة جماعية صامتة، حين يحتشد الناس دون اتفاق مسبق، حين يلتقون في الحزن دون دعوة، حين يقفون لجنازة شاب لم يعرفوه، تظهر القومية كإحساس داخلي بأنهم قطعة واحدة، حتى لو لم يُظهر السطح ذلك. لأنهم متماثلون، لأنهم يعرفون، بطريقة يصعب شرحها، أن ما يؤلم أحدهم يترك أثرًا في الباقين، وأن ما يُفقد هنا، يُنعى هناك دون حاجة لنشرة أخبار.

لا تبدأ القومية بانفصال عن الآخر، ولا تنمو في الخصومة، إنها تنشأ من اكتشاف بطيء للذات وسط الضجيج. هي التوافق الصامت بين غرباء يعرفون فجأة أنهم ليسوا غرباء تمامًا، أنهم أبناء لصوت واحد، حتى لو خرج من حناجر متفرقة. إنها اتفاق داخلي بلا وثيقة، وانحناءة قلبية نحو من يشبهنا في الباطن، لا في الصورة.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :