facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




اللغة والمعنى المستعاد


أ.د سلطان المعاني
15-05-2025 12:02 AM

المعنى المستعاد هو جوهر المعركة، لا هامشها. هو اللحظة التي تنقلب فيها العلاقة بين المتكلم والمخاطَب، بين السيد والمستعمَر، بين الذات التي تصوغ المعنى والذات التي يُصاغ لها. ففي البدء كانت الكلمة، ومن الكلمة خرجت السلطة، كشبكة معقدة من الخطابات التي تُنتج الواقع وتمنح الأسماء وتُؤطر الفهم. فاللغة حقل القوّة الأشد فتكًا، الحقل الذي تُزرع فيه البذور الأولى للهيمنة، وتُرسم من خلاله حدود الممكن والمستحيل، المقبول والمرفوض، الحلال والمحرّم. ما يُصاغ في اللغة يُصاغ في التاريخ. وما يُقصى من المعنى يُقصى من الوجود. إن كل مشروع تحرّري لا ينفذ إلى اللغة، لا يهدم بناها المترسبة، لا يعيد تفكيك السرديات الكبرى التي تستبطنها، يظل حبيس الإطار الذي رسمته له السلطة ذاتها، يتحرك داخل متاهة مغلقة سقفها الكلمات التي فرضها الغازي، وجدرانها المعاني التي كرّسها السيد، وأرضها البلاغة التي صاغها المنتصر. ولا يمكن لمقهور أن يتحرّر وهو لا يزال يتحدث بلغة المنتصر، لا لأن اللغة بذاتها تحمل لعنةً أو خلاصًا، لأن الكيفية التي تُستخدم بها اللغة تُحدّد من هو الذي يتكلم، ومن هو الذي يُتكلَّم عنه، ومن هو الذي يُسكت تمامًا.
إن استعادة السيادة تبدأ حين تستعاد سلطة التأويل. حين نكفّ عن اجترار المعاني التي صاغها الآخر، ونبدأ في صوغ معجمنا الخاص، معجم لا يقوم على محاكاة، ولا على رد فعل، وإنما على فعل أول، على نظرة متقدة تنبع من ذات تُعيد خلق العالم من خلال لغتها، لا من خلال ما علق بها من بقايا الغزو الرمزي. المعركة في جوهرها حول دلالة الأرض، حول اسمها، ورمزها، ووجودها في الحكاية. فمن يملك الحكاية يملك الحاضر، ومن يملك الحاضر يعيد كتابة الماضي، ويمهد للمستقبل. واللغة هي الوعاء الأول والأخطر لتلك الحكاية.

من هنا، فإن أي خطاب مقاومة لا يتأسس على نقد اللغة التي ورثها، ولا يشكك في دوالها ومجازاتها وبنيتها العميقة، يظل عرضة لأن يُعاد ابتلاعه ضمن الخطاب السلطوي ذاته. فاللغة ليست فقط ما نقوله، فهي ما نُجبر على السكوت عنه، ما لا نستطيع التفكير فيه لأن معجمنا لا يسعفه، لأن تراثنا اللغوي جرى تطهيره من الدلالات المزعجة، ولأن الذاكرة حُجبت عنها الصور التي لا تُناسب الرواية الرسمية. ولذلك، فإن تفكيك الهيمنة يتم على مستوى اللغة العميقة التي تشكّل وعي الناس، وذوقهم، وخيالهم، وفهمهم لذواتهم والعالم. لا سيادة لمن لا يملك القدرة على قول "أنا" بلغة لا ترتعد فيها الضمائر، ولا تسكنها استعارة العبودية. ومن لا يستطيع إنتاج المعنى، لا يستطيع إنتاج الفعل، لأنه سيظل دائمًا يستعير مفاهيمه من الآخر، ويمشي بخطاه، ويحلم بأحلامه.

استعادة المعنى هي استعادة الحق في الوجود كفاعل، لا كظلّ. هي إعادة تشكيل العلاقة بين الذات والعالم عبر لغة قادرة على احتواء التعدد، على إنتاج الرمزية، على تأويل الكون من موقع مختلف، لا خاضع. والمشروع اللغوي هنا ليس دعوة إلى الانكفاء أو التقديس، ولكنه دعوة إلى الخلق، والتجاوز، وإلى إعادة بناء لغة تكون مرآة للذات، لا قيدًا لها، لغة تستوعب التاريخ وتفتحه على المستقبل، لا تسجنه في قداسة ماضٍ مبتور.

حين نمتلك لغتنا، نصبح أكثر من متحدّثين: نصبح مؤسسين، بُناة سرديات، حَمَلة رؤى، ولا يعود الكلام ترفًا ولا تكرارًا، ويصبح اشتباكًا مع العالم، تأسيسًا للمعنى، وشهادة على الوجود. آن لنا أن نرتقي باللغة إلى مستوى الفعل، أن نجعل من البيان سلاحًا، ومن المجاز دربًا للفهم، ومن التأويل مساحة للتحرر. ففي كل استعارة ثورة مؤجلة، وفي كل استعمار للمعنى اغتصاب للسيادة.

هكذا فقط يُستعاد المعنى: لا من صمتٍ طويل، ولا من صراخٍ أجوف، ولكن من لغة مشتعلة، ومخلخِلة، تصوغ العالم كما تراه من فجوات التاريخ، ومن مرايا الذاكرة، ومن جذوة الذات التي لم تعد تقبل بأن تكون صدى، وتريد أن تكون نواة.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :