الأقلية المتغـوّلة والأقـنان
د.سالم الدهام
17-05-2025 04:16 PM
في كل مجتمع من المجتمعات هناك أكثرية، وهناك أقلية أو أقليات، وتتنوع تلك الأقليات في المجتمعات ما بين أقليات عرقية أو أثنية أو دينية.. وتتعايش مع الأكثرية بشكل آمن في الدول الديمقراطية التي تنظم مسألة التعايش من خلال الدساتير والقوانين التي يحترمها الجميع، وهي تتكفل بتحديد مفهوم المواطنة وما يترتب عليه من حقوق وواجبات يتساوى فيها الجميع ، بل إن معظم دساتير العالم لا تخلو من نصوص صريحة، وقوانين واضحة تحول دون اضطهاد الأكثرية للأقليات، ومن ثم الحرص على رعايتها وتمكينها، وأكثر من ذلك فإن بعض الدول المتحضرة التي تستشعر تهميش الأقليات تحرص على ما يسمى بـ"الكوتة " لإتاحة الفرصة لتمثيلهم في البرلمانات حين يعجزون عن الوصول بالتنافس الحر، ريثما يشتد عودهم ويتمكنون من النفوذ إلى عمق المجتمع ويصيرون جزءا أساسيا من نسيجه العام.
حتى عهد قريب كنا نسمع أصواتا في أماكن مختلفة تشكو من بعض الممارسات غير اللائقة بحق بعض الأقليات هنا وهناك، لكننا كنا مدركين تماما أن المجتمعات ستنضج إلى الحد الذي تزول معه تلك الثآليل والتشوهات غير الإنسانية من المشهد العام، عبر تعزيز مفهوم المواطنة وتحقيق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين جميع المكونات الاجتماعية. وبالفعل فإن مفهوم اضطهاد الأقليات الذي كنا نسمع عنه في كثير من بلدان العالم ودوله لم يعد له وجود في بلدنا اليوم؛ فالمجتمع كله بأكثريته وأقلياته تتشابه همومه وتتقاطع شجونه وتتشابك شؤونه، وهو يعاني من تحديات مشتركة تقض مضجعه، وتثير قلقه على حاضره ومستقبله.
لكن الأنكى من ذلك أن مجتمعنا كله بات يقع تحت تهديد أقلية ليست عرقية ولا دينية ولا إثنية ولا طائفية ولا فئوية... إنها أقلية طفيلية، أقلية نشأت وتشكلت من مزيج من الأفراد الذين اغتصبوا الرمزية الاجتماعية فحملتهم إلى مراكز متقدمة، ومنحتهم القابا قانونية وديمقراطية أهلتهم للشراكة في إدارة الدولة، ومن ثم أهلتهم لتربية صف ثان من الأقنان الذين يتبعونهم ويقلدونهم ويسعون لكسب ثقتهم والاقتداء بهم ، بالإضافة إلى ثلة ممن جرى تسمينهم في ميادين الضاحية لاختراق حواجز الصوت في المعارضة الوهمية ثم إعادتهم سيرتهم الأولى.
تلك هي الأقلية التي لا تنتمي إلى عرق أو دين أو مذهب أو فئة أو مبدأ سوى مصالحها ، تلك هي الأقلية المتغولة على الأكثرية المطلقة في المجتمع، إنها الأقلية التي ترسم مآلات المستقبل، ومسارات الإصلاح، وتهندس المجتمعات، وتصنف الأفراد، وتحتكر الوطنية والإخلاص للدولة والملك، وتجرد الآخرين الذين يخلصون دون ثمن من إخلاصهم، وربما من وطنيتم، وتوزع صكوك تأمين المستقبل لأبنائها وأحفادها، وتصادر الطموحات، وتعيد تعريف الوطن، والمواطن، وتبيعنا كميات هائلة من الزهد الذي يكفي لإغناء كل فقراء الأرض، لكنه كذب مغلف بالزهد، له مفعول سحري في رسم صور ملونة أنيقة وجميلة للمفسدين على خلفيات بيضاء... إذ لم يعد صعبا تحويل الصور المرسومة بالفحم الأسود إلى صور ملونة في ضوء ازدهار تقنيات التصوير الحديث التي يجيدها الأقنان... بينما تستولي تلك الأقلية على كل شيء، الأرض والماء وعما قريب ربما الهواء.