إشكالية الإثبات التاريخي والقبول العقلي
أ.د سلطان المعاني
18-05-2025 09:49 AM
في عالم تتناقض فيه الروايات، وتتصارع فيه الذاكرات، يبرز التاريخ كمرآة غائمة تعكس وجوهًا متعددة للحقيقة. غير أن هذه المرآة ُتعيد تشكيل الماضي في كل لحظة ووفق كل زاوية نظر. فالتاريخ، وإن بدا سجلًا لما كان، هو في جوهره بناء إنسانيّ، يتداخل فيه الحس، والعقل، والإيديولوجيا، والسلطة. وهنا تنبع إشكالية عميقة تستدعي التوقف الفلسفي: هل يمكن للإنسان أن يثبت ما حدث في الماضي إثباتًا قاطعًا؟ وهل يكون القبول العقلي للحدث التاريخي كافيًا لاعتباره “حقيقة”؟.
إن الإنسان الذي يعيش الحاضر، ينهل من الماضي هويته، ويستمد منه شرعيته، ويبرر به أحكامه ومواقفه. لكن المفارقة تكمن في أن هذا الماضي الذي يُستحضر كمرجعية يُقدّم غالبًا في صيغة روائية لا تخلو من التأويل، والانتقاء، والتحوير. الإشكالية التاريخية، إذًا، ليس ما حدث، وإنما في تأريخ أنه حدث. والإثبات التاريخي، مهما بلغ من دقة، يظل قائمًا على أثر، لا على الحدث نفسه؛ أثر يتجلى في وثيقة، أو نقش، أو شهادة، أو بقايا مادية. هذا الأثر، رغم ماديّته، يحتاج إلى عقل مؤول، يقرأه، ويمنحه معنى، ويُسقط عليه شبكته المفهومية.
وهنا نواجه المعضلة الأولى: إن الاعتماد على الوثيقة لا يكفي لإثبات الحدث، لأن الوثيقة نفسها ليست محايدة. هي ابنة سياقها، كُتبت غالبًا من قبل المنتصر، أو السلطة، أو النخبة، لأهداف لا تخلو من الغاية. فهل يمكن لعقل نقدي أن يسلّم لها كليًا؟ ثم إن التاريخ المروي يحمّل الحدث الماضي بُعدًا رمزيًا يتجاوز الواقع المادي، فيُعاد تشكيله ليناسب هوية جماعة، أو رؤية عقائدية، أو خطابًا سياسيًا. في هذا المستوى، يُصبح القبول العقلي مشروطًا بالإيمان المسبق أو الانتماء لا بالبرهان.
من جهة أخرى، هناك من يجعل من العقل معيارًا حاكمًا للحقيقة التاريخية، فيرفض ما لا يتماشى مع منطقه أو تصوره للواقع. لكن هذا الموقف ينطوي على مفارقة، إذ العقل نفسه ليس خارج التاريخ. فالمعقول اليوم قد لا يكون كذلك في سياق قرون مضت، والعقل لا يُقوّم الماضي بصفته كليًا متعاليًا، وإنما من موقعه في الزمن، ضمن منظومة معرفية وثقافية. فحين نرفض، مثلًا، إمكانية وقوع حدث خارق لأنه "غير عقلاني"، فإننا نُسقط معاييرنا الحديثة على عالم كان يؤمن بما نسميه اليوم “اللاعلمي” أو “الأسطوري”، وننسى أن البشر آنذاك عاشوا ذلك الحدث كجزء من تجربتهم الواقعية.
الحقيقة التاريخية، إذًا، تقع في منطقة ملتبسة بين الإثبات الممكن والقبول المعقول. الأولى تتطلب آثارًا، والثانية تفترض تصورًا عامًا عن العالم. وإذا اتفق الإثبات مع العقل، نشأ ما نسميه الحقيقة التاريخية المقبولة، لكن إذا تناقض الإثبات مع العقل، تُصبح الحقيقة عرضة للرفض، ولو كانت مدعومة وثائقيًا. والعكس صحيح: قد نقبل تاريخًا بلا وثيقة لأنه ينسجم مع المخيال الجمعي أو التصورات العقلية.
يتطلب هذا التوتر بين العقل والتاريخ وقفة فلسفية أكثر عمقًا. فهل غاية التاريخ أن يخبرنا فقط بما حدث، أم أن وظيفته تتعدى ذلك إلى إنتاج معنى؟ وإذا كان العقل أداة نقد وتشكيك، فهل له أن يكون في الوقت ذاته أداة بناء ثقة في الرواية التاريخية؟ أم أن كل تاريخ، في جوهره، قابل للشك، وأن ما نراه تاريخًا هو في الحقيقة مجرد وجه من أوجه الممكنات السردية؟ ألا يكون العقل، في لحظة ما، متواطئًا مع الرواية التي تريحه وتنسجم مع نظامه المفهومي، فيقبلها بوصفها "معقولة"، ولو لم تثبت، بينما يرفض أخرى لا لعيب في مصادرها، بل لأنها تناقض ما يريد تصديقه؟.
هكذا يصبح التاريخ ساحة محاكمة مزدوجة: محاكمة لما جرى، ومحاكمة لمن رواه، وأيضًا محاكمة للعقل الذي يختار أن يصدق أو يكذب. إن ما يُعرض علينا من أحداث، حتى وإن أُثبت بوثائق، لا يُصبح جزءًا من وعينا إلا إذا قبله العقل؛ لكن هذا القبول ليس نقيًا من المسبقات، ولا معزولًا عن الرغبات، ولا بريئًا من الحاجة إلى بناء سرديات تمنح الحياة المعنى.
إن محاكمة التاريخ بالعقل لا تنتهي إلى يقين، لكنها تفتح أفقًا للشك والتأمل الدائم. ففي كل مرة نقرأ فيها حدثًا، أو نصدق رواية، نمارس فعلًا فلسفيًا: نحن لا نُذعن لما كُتب، فنحن نُعيد تشكيل علاقتنا بالماضي، ونتفاوض مع الذاكرة، ونضع حدودًا بين الممكن والمستحيل، بين ما نودّ أن يكون، وما كان بالفعل.
ولعل أكبر مأزق يكمن في محاولة جعل العقل حكمًا مطلقًا على وقائع لم يعشها، ولم يرها، ولم تُكتب لأجله أصلًا. فالعقل إذ يحاكم التاريخ، يحاكم ذاته كذلك، لأنه يُسائل أدواته وحدوده، ويواجه الحقيقة الأكثر صدمة: أن ما نعرفه عن الماضي، ربما ليس ما حدث، وإنما ما اخترنا نحن أن نؤمن بأنه حدث.