يتجلى رهان السيادة الثقافية في العالم العربي في مفترق طرق معرفي وتاريخي شائك، فامتلاك القرار الحضاري مرهون بالاستقلال السياسي أو الاقتصادي وحده، كما هو رهانٌ على بناء فضاء معرفي تعددي، ونقدي، قادر على ابتكار ذاته والانفتاح على العالم دون استنساخ أو انغلاق. وهنا تتحدد الهوية مشروعاً حيّاً يستثمر الذاكرة الجمعية ويحرّر اللغة وينفتح على التجربة الإنسانية، بينما يمكّن الفئات المهمشة من إنتاج سردياتها بوصفها رافعة لكل ما يخلق من التجربة والهامش أفقاً للفهم، وتشاركاً في بناء الرؤية، وسبيلاً لتمكين الجميع من أن يكونوا فاعلين في صنع التفسير والوعي الجماعي، ومعياراً للعدالة الثقافية.
إن التاريخ العربي الحديث، منذ اللحظة الاستعمارية وما بعدها، يشهد سلسلة من محاولات اقتناص السيادة المعرفية عبر اجتراح مساحات جديدة للتفكير، وإعادة قراءة التراث بمنهج نقدي متجدد. غير أن هذه السيرورة كثيراً ما وقعت بين مطرقة الارتهان للنماذج الخارجية وسندان استنساخ الماضي دون مساءلة، فكان الفضاء المعرفي إما تابعاً لسرديات المركز الغربي، وإما أسيراً لإعادة إنتاج رموز العصور الذهبية من دون نقد. في كلا الحالين، تتفتت المعرفة ويتآكل الوعي الجمعي، وتفقد الهوية فاعليتها في الفعل والتجدد.
كلما جرى استثمار الذاكرة الجمعية بوصفها طاقةً محفزة، وكلما تحررت اللغة من ثقل الاستعارة والوصاية، وصارت أداة تفكير وإبداع، واقتُحمت هوامش المجتمع بتجارب المهمشين والنساء والشباب واللاجئين وأصوات الريف والمدينة، كلما اقتربت المعرفة العربية من تحقيق سيادتها الفعلية، وباتت الهوية مشروعا متجدداً. عندئذ، تصبح السردية الجماعية طاقة للمشاركة والحوار مع العالم، لا مرآة للغريب أو سجن الذات في ماضيها. فلا سبيل إلى هذا إلا عبر بناء فضاء معرفي تعددي، يحتفي بالاختلاف ويحميه من الذوبان في المألوف أو التصنيف الأُحادي. فالمعرفة الحقّة هي تلك التي تخرج من صمت الجماعات الصغرى وتجعل من الهامش مركزاً جديداً للحوار والتفكير. أما تكرار المقروء، أو نقل المنجز دون مساءلة، أو إعادة إنتاج القديم بلا نقد، فهو الطريق الأقصر لفقدان السيادة وتحول الهوية إلى جدار ساكن لا روح فيه.
وفي هذا السياق، تكتسب معركة المعرفة والهوية طابعاً وجودياً وشرطاً لازماً للحرية والعدالة والقدرة على الفعل في زمن التحولات الكبرى. فلا مكان لمن لا يملك لغته، ولا صوت لمجتمع لا يكتب تاريخه بنفسه، ولا هوية لجماعة لا تجرؤ على النقد الذاتي والانفتاح النقدي على الآخر. السيادة الثقافية ليست رفاهية نخبٍ أو ترفاً فكرياً؛ إنها معركة من أجل البقاء كذات فاعلة في التاريخ الإنساني، وشرط كل نهضة حقيقية تستحق أن تحمل اسمها.
يشهد العالم العربي اليوم جدلاً عميقاً حول إنتاج المعرفة، حيث تتقاطع مسارات الهوية والسيادة الثقافية مع تحديات الكولونيالية المعرفية، في ظل طموح متجدد لبناء فضاء معرفي قادر على تجاوز التبعية والانغلاق معاً. كما تتبدّى أزمة إنتاج المعرفة في فجوة لا تزال واسعة بين الرغبة في استقلال فكري وحضاري، وبين واقع مؤسسي تسيطر عليه أنساق البيروقراطية، وقيود التمويل، وضغوط السياسة والرقابة، إلى جانب ثقافة تعليمية تميل إلى التلقين وحفظ الموروث دون مساءلة نقدية. في هذا السياق، يصبح سؤال السيادة الثقافية سؤالاً عن إمكانية المجتمع العربي في أن يستعيد لغته بوصفها أداة تفكير وإبداع، لا مجرد رمز للانتماء، وأن يوظف الذاكرة الجمعية والرموز المحلية في إنتاج معرفة تنبع من الداخل وتخاطب العالم بلغة متجددة.
تزداد إشكالية إنتاج المعرفة حين ندرك أن الهيمنة المعرفية الغربية لا تظهر فقط في مناهج البحث الجامعية أو في سياسات النشر والتصنيف، بل تتسلل إلى الوعي نفسه عبر فرض معايير العالمية، وتهميش التجارب المحلية، وتجريد التابع من صوته وسرديته. في المقابل، أطلقت النخب الثقافية والفكرية في العالم العربي منذ عقود مبادرات جادة لتفكيك المركزية الأوروبية ونقد الاستشراق، والسعي نحو خطاب معرفي أصيل قادر على مساءلة التراث والانفتاح على الآخر دون استلاب أو قطيعة. ومع صعود الفضاء الرقمي والمنصات المفتوحة، باتت الفرصة متاحة لإعادة توزيع مراكز التأثير وتحرير فعل الكتابة من احتكار المؤسسات الرسمية، رغم استمرار التحديات المرتبطة بالتمويل والاستدامة والسياسة.
تتجلى ارهاصات إنتاج المعرفة أيضاً في مشاريع كبرى مثل مراكز البحث العربي المستقلة، وحركات التعليم المفتوح والترجمة النقدية، إذ تعكس هذه المبادرات قدرة المجتمعات العربية على تجاوز الاستهلاك إلى الإنتاج، وعلى تحويل الهامش إلى مركز جديد للفعل الفكري والنقدي. وكلما تمكنت المجتمعات من تمكين الفئات المهمشة، واستثمار تجارب النساء والشباب والريف واللاجئين، واقتحام المناطق المعتمة من تاريخها المعاصر، ازدادت فرص تحقيق سيادة معرفية حقيقية وتجددت الهوية العربية كفضاء للإنتاج المعرفي والمشاركة.
ويبقى رهان السيادة المعرفية في العالم العربي مرهوناً بقدرة النخب والمؤسسات والمجتمع على تحويل أسئلة الهوية والذاكرة إلى مشاريع نقدية ومبادرات عملية تلامس حاجات الناس وتخترق جدران الخوف والمحظور. فلا معنى لهوية بلا نقد ذاتي، ولا لماضٍ دون مساءلة، ولا لمعرفة تستعير أدواتها ولغتها دون أن تنتج أفقها الخاص. هكذا تتجسد معركة المعرفة في عالم عربي تتقاذفه تحولات السياسة والتكنولوجيا والهجرة والانفجار السكاني، لتغدو شرطاً ضرورياً لأي حرية وعدالة وقدرة على الفعل في التاريخ.