خطر ببالي أن أؤثث فكري المؤسسي المتواضع بشيء من المصطلحات الكبيرة التي باتت سلعا رائجة تُعلق على رفوف الدكاكين المؤسسية، كالنزاهة والحوكمة الرشيدة، والشفافية، والأهداف القطاعية ، والكفايات الإدارية.... أعجبني مصطلح الشفافية كثيرا مع أنني لا أخفي إعجابي بكل من النزاهة والحوكمة، ومدونة السلوك الوظيفي، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، والهوية الوطنية، والثقافة الاجتماعية، لكن الوجد شفني أكثر نحو الشفافية... حديث المسؤولين في الآونة الأخيرة عن الشفافية لم يكن نظريا فحسب بل صاحبته تطبيقات حقيقية واعدة؛ فاسطوانات الغاز البلاستيكية شكل من أشكال الشفافية نلام جميعا على عدم الترحيب بها، و كذلك صناديق الانتخابات المصنوعة من مادة (البوليبروبيلين) الشفافة، وتوظيف الصحافة في أروقة صنع القرارات نوع من الشفافية السياسية...وإشهار الذمم المالية لكبار المسؤولين قبل وبعد تولي المناصب العامة ينساق في السياق نفسه، لا سيما أولئك الذين لم نشاهدهم في مواسم البذار والحراثة والحصاد، فإذا هم حاضرون والأمثلة على ذلك كثيرة للرد على المتربصين بالوطن ورجالاته، الناقمين على هيئاته ومؤسساته وإداراته.

لقد طال حمل "الشفافية" سنوات طويلة وهي تتلقح سفاحا من ذكور الإصلاح، وبطنها تنتفخ يوما بعد يوم، لكنها لم تنجب لنا إلا جملة من المطففين الذين لم يحرثوا، ولم يزرعوا، ولم نشاهدهم في الحقول في مواسم الحصاد، غير أنهم سبقونا جميعا إلى (البيادر) ومخازن الغلال يكتالون ويكيلون، يغنون لمواسم الحصاد والمنجل ( منجلي وامنجلاه...) وهم لم يقبضوا على معصمه يوما، ويهزجون للسنابل، ولقطعان الماشية وهي ترتع في الحقول، وماهم إلا السبع السمان اللواتي يأكلن عرق الحراثين والزراع، إنهم جراد الحقول الذي لا يبقي ولا يذر قال عنهم شاعر الرافدين: " رحى تدور في الحقول، فتطحن الشوان والحجر"

أصواتهم من أنكر الأصوات يلجُّون، ويستفيضون، ويجردون حناجرهم، ويشحذون ألسنتهم، تكاد أن تصدقهم ، لكن سرعان ما تكتشف خلف صخب الحناجر نشوة مفتعلة لا تخلو من كذب، واستدارات باتجاهات متخلفة وزوايا منفرجة للغاية، تشف دون أن تبين، لا يجد أصحابها مناصا من أن يستغشوا ثيابهم حين تشوه وجوههم، ويخفون عيونهم تحت عدسات من بلور أسود، كي لا تبوح بالسر المكنون، وتخلف الظنون؛ لنكتشف بعد ذلك صدق مقولة قالها من نحترمه ونقدره في لحظة من لحظات التجلي، الحقيقة المرة التي لابد "...من ابتلاعها والإذعان لها... "نحن مجرد ديكور" كل ما نراه مجرد ديكور...دوي الكلمات والخطب والمصطلحات التي تقصف أسماعنا بنزق ليست سوى ديكور.