"أبوي" .. في عيد الاستقلال
أ.د سلطان المعاني
23-05-2025 09:44 AM
كان أبي جندياً في الجيش العربي، يحمل على كتفيه خيوط الشمس الأولى التي أضاءت درب الاستقلال، كأن الوطن حين خطّ ملامحه الأولى في وجه الصحراء اختاره ليكون واحداً من رجالاته الذين حملوا الوعد والمحنة معاً. عصاميّته كانت تسبق خطاه، وهو ينهض كل صباح كأن القيامة موعده، يقطف من كدّ يمينه كرامته، ويُذوِّب عناء العمر في لقمةٍ يصون بها عزة بيته.
سافر بعد تقاعده إلى بلادٍ بعيدة، فلم يزدْه الغياب إلا اقتراباً من روحه الأولى، تلك الروح التي ظلّ يجملها، ويردّد: “سأجمل روحي على راحتي إلى أن يصل، فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يكيد العدا.” كانت تلك الكلمات عقيدته، دستوراً يحمله أمامنا كراية لا تُنكس.
أستعيد وجهه كلما مرّ عيد الاستقلال. أستحضره في اللحظة التي يرتفع فيها العلم، لأن مثله هم من لبوا نداء الاستقلال، وارتقوا فوق جراحهم ليكون الأردن دار النهضة العربية، وقلعة الحلم القومي التي لم تهدمها ريح ولا جرافة. حملوا حُبَّ الهواشم، ومضوا في ركب الكبرياء، كُنّا عروبيين، فطرنا عليها ثم عاهدنا أنفسنا أن نصونها بالوعي والالتزام.
علّمنا والدي أن نصنع من سلوكنا هويةً، ومن عملنا معنى، ومن محبتنا للأرض عقيدةً مستترةً في الشرايين. فتح لنا دروب العلم وفتح في أرواحنا أبواب الأمل، فلم يعد الوطن جغرافيا ولا خرائط، صار دماً يترقرق فينا، ووجعاً جميلاً إن تألم، وبهجة لا توصف حين يزهو ويحتفل.
إن الاستقلال سيرة رجالٍ ونساءٍ حملوا الرسالة ومضوا، نقشوا أسماءهم في صخر المكان والذاكرة. الاستقلال هو أن نكون أبناءً لمواقفهم، وأن نجدد العهد كلما ضاق الأفق أو ضجت الأرض بحكايات الرحيل.
في عيد استقلال الوطن، أسمع أبي يردد من خلف الغياب: “فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يكيد العدا.” وأوقن أن الراية لم تسقط، وأننا، أبناء هذا التراب، سنظل نجمل أرواحنا ونحمل الحلم، كي تبقى الأيام تليق بالأردن وأهله.
تتجاوز معاني الاستقلال حدود الاحتفال بالتحرر من قيد خارجي، إذ تتجلى كقيمة متجددة في الوعي الجمعي، تنهض في كل مرة يختبر فيها الوطن صلابته، وتُصاغ في سلوك الأفراد ومواقفهم اليومية قبل أن تُرفع في الخطب والشعارات. الاستقلال، في جوهره، حالة كينونة تستمد من جذور التضحية معنى الصمود، وتستمد من شرف الالتزام إرادة النهوض. تتجلى معانيه في قدرة المجتمع على تحويل الذاكرة إلى مسؤولية، وفي إصراره على أن يكون الانتماء فِعلاً متراكباً بين الوعي والممارسة، لا مجرد كلمة عابرة. هو المعنى الذي يجعل من كل مواطن جندياً مجهولاً في معركة البناء، ويحوّل الإخلاص للأرض إلى طقس يومي يُعاش في تفاصيل العمل والتربية والسلوك. وفي كل جيلٍ جديد يُولد، يستمر الاستقلال كروح خفية في العمق، تمنح المكان عزيمته، وتزرع في الناس شهوة الديمومة، ليظل الوطن جديراً بأن يُحتفى به وتُحمى رايته في زمن لا يرحم المتخاذلين.
ولد الاستقلال من رحم الإرادة الجمعية حين تحوّل الإحساس بالكرامة إلى مشروع حياة، لا إلى لحظة تاريخية عابرة. استحال في وعي الشعب نداءً دائمًا للانعتاق من كل أشكال التبعية، فكان تأسيسًا مستمرًا لمعنى السيادة في الفكر والعمل. حمل الاستقلال في جوهره قلق الحرية ومسؤوليتها، إذ فرض على المجتمع أن يختار مصيره كل يوم، وأن يصوغ مستقبله بيديه لا بوصاية غريب. وتشكلت تجلياته كلما ازدادت قدرة الإنسان على اتخاذ قراره بكرامة، واشتدّ إخلاصه لأرضه وهويته، فصار الانتماء التزامًا عميقًا تجاوز الكلمات ليغدو بناءً يوميًّا في الوعي والسلوك. بهذا المعنى، غدا الاستقلال طاقة خلاقة تجددت مع كل تحدٍّ، وصنعت من الشعب جماعة حارسة للذاكرة والكرامة في مواجهة النسيان والتبعية.