تتجدد في كل عام لحظة الاستقلال الأردني، كأنها خفقة قلب تتسلل من عمق التاريخ إلى الحاضر، حاملة صدى الذين غرسوا أول بذور المعنى في أرض اجتمعت عليها الخطى وتشابكت فيها الدروب، وتأتي ذكرى الاستقلال باعتبارها حالة وعي تستدعي سؤال الوجود وتضع المواطن في مواجهة ذاكرته الجماعية: كيف كنا؟ وكيف صرنا؟
على أرض الأردن، تتداخل الجغرافيا مع التاريخ، فيصير المكان مسرحًا لتلاقح الأزمنة وتشكّل الذاكرة الوطنية. هنا، حيث ينبت الحلم في تربةٍ عرفها العابرون والمحاربون، يصير التراب حاملًا لهواجس الإنسان وتطلعاته، كما لو أن الأرض نفسها كانت تنصت إلى أنين الليالي وأهازيج الفجر الأول. ولد الاستقلال ودونته الدساتير، وتفتّق في عرق الجنود على الحدود وهم يذودون عن حمى البلاد، وفي سهر الأمهات اللواتي ينتظرن أبناءهن عند عتبات الغياب، وفي نظرة آباء يرمقون الأفق بحثًا عن غدٍ لا يخلو من قلق ولا ينضب فيه الرجاء.
لقد تجلت رمزية الاستقلال في تلك المسافة الشاقة بين ترقب اللحظة والاختيار، وبين التبعية والإرادة الحرة. كل محطة من محطات الاستقلال كانت امتحانًا للهوية، واستحقاقًا يُعاد تجديده في ضمير الجماعة، يبدأ بنيل الحرية السياسية، ويتواصل في صيرورة البناء ومغالبة الفقر والجهل، وترسيخ معنى الكرامة في تفاصيل الحياة اليومية. وحين ينهض المجتمع ليواجه تحدياته، تتكثف رمزية الاستقلال في ذلك الأفق الرحب الذي يتسع للأمل والإصرار على البقاء. هناك، في انتصار الجماعة على الخوف، تتجلى قيمة الإنسان الأردني، وتبرز قوة الجماعة القادرة على تحويل التحديات إلى مسارات جديدة للوجود، ونسج معنى يتجاوز حدود الجغرافيا وظروف الزمان. في هذا الامتداد التاريخي، يظل الاستقلال فعلًا مستمرًا، مشروعًا مفتوحًا على كل جيل جديد، وأفقًا يطل منه الأردني على معنى الحرية، والكرامة، والوطن.
ما يزال الأردن يحتفي بجمالية حدوث الاستقلال في تفاصيل الحياة اليومية: في المدارس حين يرفع الأطفال العلم وتلمع في عيونهم حكايات الجدود، في الشوارع حين تتكئ البيوت على ذاكرة البنائين الأوائل، وفي وجوه الناس التي تحمل ظلال أجيال تعاقبت على حمل الحلم نفسه. كان استقلال الأردن لحظة انعتاق، وبداية مشروع طويل من البناء والتأسيس، فيه تتداخل بطولات الجنود مع أحلام الطلاب، وتتشابك دموع الأمهات مع ضحكات الأطفال، وتتعانق مشقة الصبر مع نشوة الفرح.
يمتاز الاستقلال في المخيال الجمعي الأردني بقدرته على توليد رموز جديدة في كل مرحلة؛ فهو حالة تتحول مع تحولات المجتمع. حين اشتدت الأزمات وتكاثرت التحديات، ظل الاستقلال فكرة تحرس الهوية وتضبط الإيقاع الوطني وتدفع الناس للتمسك بخيط الأمل. في كل مرة تتعرض البلاد لاختبار جديد، تعود تلك اللحظة الأولى – لحظة التأسيس – لتذكّر الجميع بأن الوطن معنى يُعاش ويُعاد اكتشافه في كل يوم.
لا يكتفي النص الواقعي باستحضار الوقائع والأرقام، فينحني أمام قصص القادة، وحكايا الناس الذين صنعوا الاستقلال بلا ضجيج. جنود عادوا من حدود مجهولة، أمهات انتظرن أبناءهن تحت المطر، أطفال حلموا بمقعد في مدرسة قيد التأسيس… هؤلاء هم أبطال الاستقلال، وهم الذين رسموا للجمال في معناه الوطني خطوطه الأولى.
تأخذ السردية هنا بعدًا وجوديًا: يُروى الاستقلال كحكاية صمود وبناء، ومشروعاً مفتوحاً لكل جيل جديد، تتبدل معه الملامح، وتبقى الروح واحدة. في مشهد طفل يرفع علمًا أكبر من قامته، أو عامل يزرع شجرة في قلب المدينة، أو معلم يُنشد نشيد الوطن في طابور الصباح، تولد جمالية الحدوث: تلك اللحظة التي تلتقط فيها الذاكرة الوطنية جوهر الاستقلال وتمنحه حياة متجددة.
يظل استقلال الأردن أكثر من تاريخ أو شعار؛ هو سياق يومي متجدد، ومعنى يُكتَب بعرق الناس ودموعهم، وبأملهم الصابر على صخور الجغرافيا الصعبة. إنه تلك القدرة العجيبة على تحويل المحن إلى رموز، وتحويل الرموز إلى فعل، ثم تحويل الفعل إلى ذاكرة لا تنطفئ.
لقد نهضت القيادة الهاشمية بمشروع الاستقلال، وأولته مكانة محورية في مسيرة الاستقلال الأردني، فقد تجسدت الإرادة الوطنية في رؤية قادة راهنوا على الإنسان، وآمنوا بأن بناء الوطن لا يكتمل إلا بتعاضد الشعب والتفافه حول قيم الحرية والكرامة. كان حضور القيادة، منذ الملك المؤسس وحتى اليوم، صمام أمان ومصدر إلهام، حيث حمل القائد عبء القرار في لحظات المصير، وقاد البلاد بحكمة وتبصر وسط العواصف والتحولات الكبرى. ولقد دأبت القيادة الهاشمية على أن تبني نسيجًا حيًا في الوعي الجمعي، تستمد شرعيتها من تضحيات الجنود، ودموع الأمهات، وصبر الناس في البوادي والقرى والمدن.
هنيئًا للأردن يوم استقلاله، وهنيئًا للقائد، وحادي الركب، وسليل الدوحة الأطهر، جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، وولي عهده الأمين سمو الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، وللشعب الأردني العظيم بكل مكوناته هذا المجد الذي صنعته الإرادة والتضحيات، وما زال يكتب فصوله الأجمل في سجلات الزمن.