الثمن الخفي للراحة الرقمية: عندما تصبح خصوصيتك سلعة
د. رائد عودة
29-05-2025 02:01 PM
قد نبحث عن منتج لمرة واحدة ثم نجد المحتوى المرتبط به يلاحقنا في كل مكان. أو نمرّ بتجربة بسيطة، فنبدأ بملاحظة أنّ التطبيقات والمواقع المختلفة كلّها تتصرّف وكأنها كانت هناك معنا، تُراقب وتفهم وتستعد للرد. وكلّما استخدمنا الإنترنت، نشعر أن كل شيء حولنا صُمّم خصيصًا لنا، من الإعلانات التي تظهر في التوقيت المثالي، إلى مقاطع الفيديو التي تجذبنا من أول ثانية، إلى المنتجات التي "نحتاجها" قبل أن ندرك ذلك.
وهذا هو جوهر ما يُعرف اليوم بالخدمات المخصصة أو "الشخصنة". وهي تجربة تعتمد على تحليل سلوكنا واهتماماتنا وتفاعلاتنا، بهدف تقديم محتوى أو خدمة تُناسبنا بدقة شبه شخصية.
في الظاهر، تبدو هذه التقنية مفيدة، حيث أنها توفّر الوقت وتُسهّل الوصول إلى ما يهمنا وتمنحنا شعورًا بأننا "مُميّزون". لكن هذا التميّز له ثمن: بياناتنا وخصوصيتنا. فكل ضغطة أو نقرة، وكل مشاهدة، وحتى كل توقف عابر — نعم حتى صمتنا — هو معلومة تُسجّل. هناك نظام يراقب ويحلل ويتعلّم. ومع الوقت، يعرف ما الذي يلفت انتباهك، وما الذي تتجاهله، وما الذي يمكن دفعك نحوه.
فمثلا، تجمع فيسبوك يوميًا حوالي 5 بيتابايت من البيانات، أي ما يعادل ما بين 750 مليار و 2 تريليون صفحة كتاب! هذه كمية هائلة من البيانات يصعب تخيّلها لكنها تُجمع وتُحلّل كل يوم من تفاعلات المستخدمين على فيسبوك.
لكن مع هذا "الفهم العميق"، تظهر أسئلة لا مفر منها. هل هذه التوصيات تُساعدنا فعلًا، أم أنها تُوجّهنا بصمت؟ هل تفتح أمامنا اختيارات أوسع، أم تحصرنا في دائرة مريحة لكنها ضيقة؟ ومتى تتحوّل الخدمة الذكية من وسيلة للمساعدة إلى أداة للتأثير وربما التلاعب؟.
وما نراه على منصات التواصل أو مواقع التسوّق هو مجرد البداية. فتقنيات الذكاء الاصطناعي بدأت تدخل مجالات أكثر حساسية، مثل الرعاية الصحية، حيث تُقدَّم اقتراحات علاجية قد تُغيّر مصير المريض. وفي التعليم، يتشكّل المحتوى بناءً على تفاعل كل طالب، مما يجعل التجربة التعليمية فردية إلى درجة قد يصعب معها المقارنة. أما في التوظيف، فتعتمد بعض الأنظمة على خوارزميات تُرشّح المتقدمين بناءً على معايير غير شفافة قد لا تكون مفهومة بالكامل حتى لمن قام بتطويرها.
ورغم أن النية قد تكون تحسين الخدمة، إلا أن النتيجة قد تثير تساؤلات أخلاقية وقانونية خاصة فيما يتعلق بالخصوصية والتحكم. ولا شك أن الكثير منا يُعبرون عن إعجابهم بخدمات "تفهمهم"، لكن حين نُسأل عن نوع المعلومات التي تُجمع عنّا أو عن مدى قدرتنا على التحكم بها، نبدأ بالقلق.
والمشكلة هنا هي الثقة. من الذي يضع الحدود؟ وهل نمتلك فعلاً حرية الاختيار، أم أن الخيارات تُقدَّم لنا جاهزة؟ وما الذي نخسره عندما نُضحّي بخصوصيتنا في سبيل راحة الاستخدام؟.
إذن، ما الذي يجب أن يتغير؟ على من يصمّم هذه الأنظمة أن يلتزم بمبادئ واضحة لا يجوز التهاون معها. يجب جمع الحد الأدنى فقط من البيانات وتحديدا ما هو ضروري فعلاً لا أكثر. ويجب أن تكون موافقة المستخدم مفهومة وصريحة وخالية من التعقيد أو الشروط المخفية. كما ينبغي أن يكون للمستخدم الحق الكامل في الوصول إلى بياناته وتعديلها أو حتى حذفها بشكل نهائي.
وفي الختام، فإن التكنولوجيا قادرة على تحسين حياتنا، لكن لا يجب أن يكون الثمن هو المراقبة المستمرة وغياب الشفافية. فالخصوصية ليست ميزة إضافية أو اختيارية بل حق أصيل. وبينما تُقدَّم سهولة الاستخدام دائمًا كأولوية وتُقبل من الناس بسرعة، فإنّ حماية الخصوصية مسؤولية أكبر لا تقل أهمية عنها حتى لو لم تكن بنفس الجاذبية أو السهولة.
*د. رائد عودة/ مساعد الأمين العام للشؤون العلمية والتكنولوجية
المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا
r.awdeh@hcst.gov.jo