حين تُنجب الكلمة جنازةً تليق برجل
د. صالح سليم الحموري
01-06-2025 10:33 PM
يا أبا رفعت (احمد سلامه).. أوجعتنا!
وكأنك لا تكتب، بل تفتح بوابات الذاكرة، وتدخلها علينا دون استئذان، لتقلب فينا الصمت وتوقظ فينا ما حسبناه قد نام أو تآلفنا معه. كل سطر من مقالتك عن محمد الخطايبة – رحمه الله – لم يكن مجرّد سرد، بل كان بكاءً مكتوبًا، ووفاءً من معدن نادر، ودرسًا جديدًا في الصحافة النبيلة، تلك التي لا تُجامل، ولا تُتاجر، ولا تُهادن الحزن.
مقالتك لم تكن تأبينًا عاديًا، بل كانت صلاة حب، ومجلس عزاء فيه من الدموع ما لا تقوله العيون، ومن الإخلاص ما لا تقدر عليه الكلمات.
أرهقتنا يا رجل!..
كتبت كأنك تمشي معنا بين القبور، وتمسك بأيدينا حين ننهار، وترمم الذاكرة حين تتكسر من شدة الوجع.
صحيحٌ أنني لم أحضر الجنازة، لكني عشتها معك حرفًا، ودمعة دمعة، وكأنني وقفتُ إلى جانب ابن عمي زيد الحموري وهو يودّع، وشاركت العتوم وجعه الصامت، وتحسست دفء التراب على جبين محمد كما وصفته أنت.
لقد مددتَ مساحة الحزن، لا لتغرقنا، بل لتدلنا على معنى الفقد حين يكون الفقيد وطنًا صغيرًا، ومروءة تمشي على الأرض، وذاكرة لا تعرف النسيان.
كتبت عن محمد، فكتبت عنا كلنا.
عن صداقاتنا التي شكلتها الحروف و"المصطبة"، عن رجالٍ كانوا كالظلّ، لا تراهم إلا حين تغيب شمس الحقيقة.
عن أولئك الذين لا يصنعون ضجيجًا، لكن حضورهم يملأ المكان طمأنينة ووقارًا.
عمن كانت جلساتهم على المصطبة ليست مجرد استراحة، بل محطة حقيقية لفهم الوطن والناس، ولترميم اليوم بالحكاية، وبالصمت حين تعجز الكلمات، هل الباشا "سمير الحياري" كان برفقتك؟.
لقد كتبت عن محمد، فأيقظت فينا صورًا من زمنٍ خفيف الظل، ثقيل المعنى... زمن كانت فيه الكلمات أوفى من بعض الأحياء، وكانت "المصاطب" مدارس لا تُكتب، بل تُعاش.
كتبت عن صدقٍ لا يُصطنع، ومودةٍ لا تُشترى، ووفاءٍ لا يُدرّس.
يا أبا رفعت، كم نحتاجك في زمن باتت فيه الكتابة تُباع بالمتابعين، وتُفصّل حسب رغبة الجمهور.
كم نفتقد لأقلام تكتب بلا خوف، تبكي بلا خجل، وتحنّ بلا مواربة.
مقالتك عن محمد الخطايبة ليست مجرد نص، إنها وجع بحجم الوطن، وقُبلة على جبين كل من رحل وهو متمسك بأردنيته وفلسطينيته، وكرامته، وإنسانيته.
لقد قلتها بصوتٍ عالٍ: "محمد قصة أردنية تستحق أن تُقرأ ممن يصيبهم الرمد في التحولات الكبرى..."
وأنا أضيف: وأنت قصة وفاء نادرة، تكتب كي لا ننسى، وتوجعنا كي لا نتحجّر، وتبكينا كي لا نكفّ عن الشعور.
لله درّك يا أحمد سلامة… كم من جرح فتحته فينا كي نُشفى؟ وكم من كلمة كتبتها كأنها دعاء على ضريح رجلٍ عاش كبيرًا ورحل كريمًا؟
أحمد، لا تتوقف..
نحتاج إلى ألمك كي نحبّ أكثر، ونفهم أكثر، ونحزن كما يليق بالفرسان. امسك بيد زيد واسنده، فالكمامة التي يلبسها تخفي ألمه لا وجهه. واسند ظهر عبدالله، فإن صمته موجع أكثر من البكاء.
وطمئن راتب، وقل له إن الليل الذي فقد فيه رفيقه لن يطول.
نم يا محمد، كما يليق بالأوفياء…
وابقَ حيًا فينا يا أحمد،
فكلماتك لا ترثي الموتى فقط، بل تُعيد للأحياء معنى الحياة.