الذكاء الاصطناعي ليس مشروعًا تقنيًا .. بل مشروع حضاري
د. صالح سليم الحموري
03-06-2025 11:40 AM
يُخطئ من يعتقد أن الذكاء الاصطناعي مجرد تقنية جديدة تُضاف إلى سلسلة الابتكارات التكنولوجية. فالذكاء الاصطناعي، بما يحمله من قدرات تنبؤية وتحليلية وتفاعلية، لم يعد حكرًا على المختبرات أو الشركات العملاقة، بل تجاوز حدود التقنية ليغدو مشروعًا حضاريًا يمس جوهر المجتمعات، ويعيد تشكيل أساليب العيش، وأنماط التفكير، وطرق التفاعل مع العالم من حولنا.
فالذكاء الاصطناعي لا يُبنى بالخوارزميات وحدها، بل تُغذّيه القيم. حين تُصمَّم الأنظمة الذكية لتتخذ قرارات تمس البشر، يصبح السؤال الأخلاقي عنصرًا جوهريًا في المعادلة التقنية. من المسؤولية إلى الشفافية، ومن العدالة إلى الإنصاف – باتت القيم الإنسانية تُترجَم إلى بيانات ونماذج، تُعلّم الآلة كيف تفهم العالم... أو تنحرف في فهمه.
صحيح أن الذكاء الاصطناعي قادر على تسريع الإنتاج، وتحسين الخدمات، والمساهمة في اكتشاف الأدوية، لكنه قادر أيضًا – إذا أُسيء استخدامه – على ترسيخ التحيّزات، وتوسيع الفجوات، وإقصاء الفئات الأقل تمثيلًا. ولهذا، لا بد أن ننتقل من مجرد هندسة الذكاء إلى هندسة الضمير داخله.
الحكومات الواعية لم تعد تسأل: "كيف نُدخل الذكاء الاصطناعي إلى خدماتنا؟" بل أصبحت تتساءل: "كيف نُشكّل ذكاءً اصطناعيًا يُشبهنا؟ يحمل قيمنا، ويحترم إنسانيتنا؟" فدور الحكومات لم يعد يقتصر على سن القوانين، بل امتد إلى بناء إطار حضاري شامل، يوجّه مسيرة الذكاء الاصطناعي نحو الصالح العام، ويضمن أن يكون تقدمه محكومًا برؤية إنسانية رشيدة.
الذكاء الاصطناعي – رغم نضجه التقني – لا يزال حضاريًا في طور الطفولة. ولن يبلغ رشده إلا إذا نشأ من رحم المجتمع: من المدارس، والمكتبات، ودور العبادة، ووسائل الإعلام، ومناهج التربية.علينا أن نربّي أبناءنا على التفاعل مع الذكاء الاصطناعي لا كمستهلكين سلبيين، بل كمساهمين واعين في صياغة مستقبل تشاركي بين الإنسان والآلة.
فالمهمّ ليس فقط أن نبرمج الآلات، بل أن نمنعها من برمجتنا.
وختامًا، إن لم نرَ في الذكاء الاصطناعي مشروعًا حضاريًا، سنظل نستخدمه كأداة تقنية فقط، بينما هو في جوهره محرّك لتحوّل وجودي.
فالحضارات لا تُبنى بالخوارزميات، بل بالقيم. والذكاء الاصطناعي سيظل مرآة لحضارتنا: إما أن يعكس وجهًا ناصعًا لإنسانيتنا، أو يفضح زوايا عتمتنا التي أغفلناها.
* مستشار التدريب والتطوير / كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية