العلم ليس تكديسًا للمعرفة، ولا استظهارًا لما قيل؛ بل هو ارتقاءٌ في فهم الحياة، واتّساعٌ في أفق النظر، وتجلٍّ للعقل حين يُحسن الإصغاء لما حوله وما في داخله؛ إنه قيمةٌ في ذاته، تُهذّب الفكر، وتُنقّي الذوق، وتُقيم للنفس ميزانًا من التمييز والوعي.
إن النفس لا تستقيم في مدارها، ولا تستوفي طاقتها دون علمٍ يُنير مسيرتها، ويمنحها أدوات الفهم، ويُعلّمها كيف تتعامل مع الأفكار، والأشياء، وتحوّلات الزمان.
والقراءة، في هذا السياق؛ هي تَمرِينٌ عَقلِيٌّ رَاقٍ، يُقبل فيها الإنسان على النصّ كما يُقبل على مرآةٍ تُريه وجوهًا جديدة من المعنى، وتكشِف له أبعادًا لم يكن ليبلغها وحده؛ هي صلةٌ بين عقلٍ حاضر وتجربةٍ إنسانية خُطّت بحبرٍ لا يجفّ، لتُخلَّد في ذهن القارئ، لا في الورق فقط.
وأما اللغة العربية، فهي أكثر من لسان، وأعمق من وسيلةٍ للتواصل؛ إنها نظامٌ فكريّ، وجمالٌ متقن، وفلسفةُ تعبير. فيها يُقال الكثير بالقليل، وتُصاغ المعاني بأدقّ العبارات، حتى إذا نُطِق بها المعنى، جاء محكمًا موزونًا؛ كأنّه صِيغ ليبقى.
في العربية، الكلمة بناءٌ يحمِل ظلالًا من المعنى، وصدىً من التاريخ، وأناقةً من التراكيب؛ من يكتب بها يُدرّب ذهنه على الانضباط، ويُعلّم نفسه الدقّة، ويكتشف أن لكل فكرة، وإن دقّت، عبارةً تليق بها، إذا أُحسن السعي إليها.
فالقراءة الواعية، إذا اقترنت بلغةٍ فصيحة، وعقلٍ يُحسن التأمل، صنعت في النفس أثرًا لا يُرى في الظاهر، لكنه ينعكس في كل تفصيل من تفاصيل الحياة: في الحكم على الأشياء، وفي فهم العلاقات، وفي النظر إلى العالم .
ومن اجتمع له العلم، والقراءة، ولغةٌ ترفع من قدر الفكر، فقد بلغ من مراتب النفس مقامًا راقيًا، يُعينه على الاتزان، ويمنحه أدوات التعبير، ويُكسبه قدرةً على إدراك المعنى لا كما هو فقط، بل كما ينبغي أن يُرى.