من التمكين إلى تعظيم القوة المؤسسية، حيث لم يعد مجرّد "تمكين الموظف" كافيًا لبناء مؤسسات حكومية قادرة على التكيّف والابتكار. فبالرغم من أهمية التمكين، والذي يركّز عادة على منح الصلاحيات وتحسين بيئة العمل، إلا أنه لا يلامس بالضرورة جوهر تنمية الإنسان. وهنا يبرز مفهوم أعمق وأكثر تأثيرًا: التمتين.
التمتين هو فلسفة ترتكز على تعظيم ما هو قوي في الإنسان، لا الاكتفاء بسدّ الثغرات أو معالجة أوجه القصور. إنه منهج مؤسسي ينظر إلى الموارد البشرية باعتبارها مصدرًا للطاقة والتحول، لا مجرد أدوات تنفيذ. وبدلًا من السؤال التقليدي: "ما الذي ينقص هذا الموظف ليتحسّن؟"، يبدأ التمتين من سؤال أكثر قوة: "ما الذي يبرع فيه هذا الموظف فعلًا… وكيف يمكن تعظيمه؟"
لم يكن هذا المصطلح وليد الصدفة، بل هو نتاج فكر وتجربة ناضجة، نحته فيلسوف الإدارة العربية الأستاذ نسيم الصمادي قبل أكثر من عقد من الزمان، ليُضيف بُعدًا جديدًا إلى علم تنمية الموارد البشرية. فالتمكين يمنح الموظف الثقة… لكن التمتين يُعزّز الإبداع والابتكار، ويبني عليه.
في بيئات الحكومات الرشيقة، يُعد التمكين مجرد بداية. أما التمتين، فهو ما يصنع الفرق الحقيقي، ويحوّل التميّز الفردي إلى أداء مؤسسي مستدام. ولعل ما يُثبت فعالية هذا النهج هو ما أكدته أحدث دراسات التطوير المؤسسي: الاستثمار في مكامن القوة يُنتج فرق عمل أكثر ولاءً، أسرع ابتكارًا، وأشد قدرة على تجاوز الأزمات.
خذ على سبيل المثال تجربة حكومة دبي. حين قررت اعتماد نظام النجوم العالمي لتقييم مراكز الخدمة، لم يكن الهدف هو رقابة الجودة فحسب، بل بناء كوادر ملهمة مؤمنة برسالتها. فالموظف في هذا السياق ليس منفذًا لسياسة، بل شريك في التصميم والتطوير، صانع لتجربة المتعامل، ومصدر إلهام لمن حوله.
وهذا التوجه لا يقتصر على دبي وحدها، بل نراه يتبلور أيضًا في خطة تحديث القطاع العام الأردني، التي بدأت بالتمكين، وتتحرك تدريجيًا نحو التمتين. من تطوير أنظمة المسارات الوظيفية المبنية على الكفاءة لا الأقدمية، إلى إطلاق برامج تدريب تخصصي بالشراكة مع معهد الإدارة العامة، ومرورًا بمنصة تقييم إلكترونية حديثة تهدف إلى اكتشاف إمكانات الموظف وتوجيهه لمسار نموّ شخصي يتناسب مع قدراته الفريدة.
إنه تحوّل ذكي من فلسفة التوحيد إلى فلسفة التخصيص، ومن التدريب الجماعي إلى التمتين الفردي.
ولأن الموظف "الممكَّن ينجز"… لكن الموظف "الممتن يُبدع"، فإن الحكومات الرائدة تُبنى على الإنسان: تفهمه، تؤمن به، وتراهن عليه.
الدراسات أثبتت، لا تُبنى حكومات المستقبل بالأوامر والتعاميم، بل بثقافة تؤمن أن الإنسان القوي لا يصنع النتائج فقط، بل يصنع الرؤية ذاتها .ومع الانتقال من التمكين إلى التمتين، نحن لا نُغيّر الأدوات فقط، بل نُعيد تعريف مفاهيم القيادة والانتماء والإبداع المؤسسي.
فلنؤمن أن في كل موظف بذرة قائد، وأن الاستثمار الحقيقي يبدأ حين نركّز على "الإمكانات لا النقص".
فبهذا الإيمان، ننتقل من مؤسسات تؤدي المهام… إلى مؤسسات تُلهِم، وتُبدع، وتصنع المستقبل.
التركيز على نقاط القوة لا يصنع موظفًا أفضل فقط، بل يصنع مؤسسة أقوى.
* خبير التدريب والتطوير - كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية