حين يصبح الجلاد حامي العقيدة والممانعة نشرة جوية
د. هاني العدوان
14-06-2025 01:12 PM
نعم إنه زمن الخديعة الأنيقة والشعارات المطاطية، تتسلل إيران إلى المشهد العربي بثياب "الولي الفقيه"، بينما تخفي تحتها سكاكين التاريخ، وأحلام المجد الإمبراطوري الفارسي، بعض الناس، هداهم الله، انقلبوا فجأة ناطقين رسميين باسم طهران، يتحدثون باسمها أكثر مما يتحدث المرشد في خطبه، يهللون "المقاومة، المقاومة"، وكأنهم خرجوا تواً من ضواحي قم لا من حواري العرب.
تمهلوا أيها الطيبون، فأنتم في حضرة دولة تتقن فن التقية، وتخفي تحت عمامتها أضعاف ما تعلن من شعارات التحرير، لا تبحثوا عن فلسطين في ملفاتها، بل فتشوا عن بغداد التي فتكت بها، ودمشق التي أجهزت على ما تبقى من أهلها، وصنعاء التي اختطفتها كرهينة، وبيروت التي صارت مضافة للملالي
إيران ليست أما للممانعة، بل خالة للفوضى، ترضع الأتباع حليب الطائفية، وتبيعهم وهماً مغلفاً بكلمات كبيرة، بالنهار تتلو علينا آيات العداء لإسرائيل، وبالليل توقع معها على هوامش الغرف المغلقة، فيينا شاهد عدل، وسجلات التفاوض لا تمحى
نعم، نريد لإسرائيل أن تزول، ولكن بأي عقل صدقنا أن إيران هي الطريق، الدولة التي لم تطلق طلقة واحدة على تل أبيب منذ ولادتها، باتت فجأة "قلب الأمة النابض"، بينما رصاصها كله نزل على رؤوس العرب، من البصرة إلى دير الزور، ومن تعز إلى المخا، ومن طرابلس الغرب إلى ضاحية لبنان
حين كان صدام حسين، بكل ما له وما عليه، سداً في وجه هذا الطوفان، كانت طهران شيطاناً بعمامة، ثم سقط السد، وغرقت بغداد، فدخلت إيران كالضبع الجائع، تقسم الكعكة على طوائف، وتكتب تاريخاً جديداً بمداد الدم
والمضحك المبكي أن بعض "المقاومين الموسميين" صاروا يوزعون شهادات حسن سلوك لطهران، ويقسمون بأحقيتها في الوصاية على القدس، القدس التي لم تزرها صواريخهم ولا حتى طائرات ورقية من الضاحية، الدعم الذي يتحدثون عنه، ليس إلا سلعة تفاوضية تتغير حسب حرارة الاجتماعات في فيينا، و"الرد المزلزل" بات من كوابيس اليقظة التي لا تُقنع طفلاً
ضُربت إيران في مقتل، قُتل قادتها، ضُربت منشآتها، وكان ردها قذائف صوتية لا تحمل سوى رسالة: نحن هنا، لكن فقط للعرض، الصواريخ التي تباهت بها سقطت قبل أن تصل، وإن وصلت، فضررها كتلة حديدية خاوية، لا تصنع إلا ضجيجاً يعجب الإعلام، ويخدر البسطاء
الممانعة اليوم ليست عقيدة، بل نشرة جوية، كلما تغير الضغط في واشنطن أو تغير المبعوث في فيينا، تم تعديل "الرد" ليناسب الأحوال الجوية، والقدس، تصبح شعاراً عند الحاجة، وتُحزم مع اللافتات حين تنتهي المسرحية
وهنا نعود إلى رجل سبق زمنه، وأطلق التحذير حين كان كثيرون يغطون في نوم الوهم، جلالة الملك عبدالله الثاني حذر مبكراً من خطر "الهلال الشيعي" ومخطط تطويق المنطقة، حين تحدث عن مشروع إيراني يمتد من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق، سخر البعض حينها، وتجاهله آخرون، واليوم نرى الهلال وقد صار كماشة تضغط على عنق العرب من الجهات الأربع
الملك لم يكن يتنبأ، بل يقرأ الخريطة، ويضيء النفق، لكن من أراد العتمة لا يرى غير ظله
حتى الحسين، عليه السلام، لم يسلم من التسويق، دمه الطاهر صار مادة دعائية تُستحضر في موسم، وتخزن في أرشيف الطائفية حين تهدأ العاصفة
إيران ليست الحمل الوديع، ولا أمريكا وحدها الشيطان، الشيطان هو من يحولنا إلى خرائط طريق لمشاريعه، من يسفك دماءنا على موائد مفاوضاته، من يوهمنا بالنصر وهو يكتب الهزيمة باسمنا، من يسرق جغرافيتنا ليزرع عليها راية مشروعه المذهبي، ثم يبتسم ويقول، "أنتم إخوتنا في العقيدة"
تاريخ إيران في منطقتنا ليس سلسلة مقاومات بل سجل مناورات، ولا يشبه مسيرة تحرير بل خطة تطويق واستنزاف، من لا يرى خطرها، فليعد النظر في بوصلة وعيه، ومن يبرر لها، فليمسك لسانه قبل أن يتحول إلى أداة في يد الجلاد
لا ملالي طهران حررت شبراً، ولا صواريخها ردعت عدواً، وما تدعيه من نصر ليس إلا عرضاً مسرحياً بطلُه إعلام، وسيناريوه حبر على رمال
أما من حذر مبكراً، وقرأ الخطر كما هو، فذاك صوت من نحتاجه في زمن ضاعت فيه الأصوات بين التهليل والتضليل