هنا، حيث تمتد السماء ظلًا للقلوب، وتفرش الأرض كفّها لكل خائف وراحل، يولد الوطنُ من المعنى قبل الصورة، ويشبّ عن الحواجز، حارسًا لنبوءة الحب الأولى. ما للحسد أن ينخر جذوع السنديان، ولا للغيظ أن ينطفئ في مواقد البيوت المفتوحة. فالوطن نبض يتناسل في المدى، كلما ضاق العالم اتسع فينا.
نرتضي ما نحبّ، ونحبّ ما نرتضي؛ فالعين حين تعشق أرضها تصير عتبة لكل المعاني، وحين يسكن الوطنُ الضلوع يصير للأبواب مفاتيح من نور. لا يؤرقنا عواء العابرين على أسوارنا، ولا نخشى حاسدًا أعمته وحشة القلب، فالسماء فوقنا سقف لكل دعوة، والأرض تحتنا فسحة لكل من ضاقت به الجهات.
هكذا عرفنا هذا التراب: ديدنه جبر الخواطر، ودربه غوث الملهوف. في أرومتنا عرق ماء لا يعرف الظمأ، وجذورنا لا ترد الغريب، فالنخيل لا يسأل الطيور عن موطنها، ولا البحر يغلق موجه على ضفة. من بقايا الحنين نزرع نوافذ لآهات المنفيين، وفي شقوق الذاكرة نخزن أسماء العائدين بلا قيد أو شرط.
ليس في الوطن مكان للحقد؛ إنه الهواء ذاته، يُصافح حتى من ضل الطريق، ويفتح صدره للسحب المثقلة بالبكاء. نؤمن أن للإنسان كرامة تولد من احتضانه، وأن للمحبة لغة لا تجيدها القلوب المتحجرة. في كل بيت من بيوت وطننا باب لا يُغلق دون طارق، وفي كل عين بصيرة لا تنطفئ حين يُطرق بابها ليلاً.
يا وطناً وُلد من رحم الطمأنينة، أنت المسافة الوحيدة التي تختصر الغربة، والنبض الذي يوزع الحياة بالتساوي على الحالمين والمنكسرين. لا تقوى ريح الحسد على نزع جذورك من صدورنا، ولا يفلح الغيظ في تجفيف ينابيع عطائك. هكذا، سنظل ننتمي إلى وطن لا يتقن غير الجبر، ولا يعرف غير الرحمة؛ وطن يظلّل بظله كل من أضاع ظله. في ذاكرة هذا التراب تسكن وجوه الشهداء والعابرين، وتتعانق أصوات الأمهات المعلقات على الشرفات في انتظار الغائبين. ليس للغيظ بيننا مكان، فما زالت الأبواب تُخلع من مفاصلها ترحيبًا، كما كانت تُخلع يوم فتحت المدينة ذراعيها لمن أتعبهم البعد وأضناهم الضياع.
منذ أيام "الجار قبل الدار"، ونحن نحيك من ضوء الفجر ستراً لكل محتاج. من ليالي الشتات إلى امتداد الحلم، كانت الحكايات تبدأ بفارسٍ يجود، وتنتهي بسيدة توقد النار للضيف. حتى صارت الأرض نفسها تُرزق بكرم من يعبرها، وصارت السماء تحفظ أسرار من تفيض يده ولا يسأل من أين جاء الطارق ولا إلى أين يمضي. هذا الوطن لا يُسأل عن دين ضيفه ولا عن لونه، فالجذور واحدة حين يشتد العطش، والظل واحد حين يعصف الحر. في كل بيت من بيوت الوطن بركة ماء للظمآن، وفي كل قلب شمس لا يغشاها دخان الحاسدين.