إيران في فخ الانتظار: هل تعيد طهران أخطاء بغداد وبيروت؟
عمر ضمرة
16-06-2025 11:33 PM
لطالما كان البادئ في أي حرب هو من يملك زمام المبادرة، وله اليد الطولى في تحريك أحداث المعركة وفق إيقاعه الخاص، وصولًا إلى تحقيق التفوق وربما الانتصار. ومنذ فجر التاريخ، لا ينتصر في الحروب من ينتظر، بل من يبادر، يضرب أولًا، ويفرض منطقه على الميدان.
في الصراع المستعر بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والكيان الاسرائيلي الغاصب، يبدو أن طهران تأخرت أكثر مما ينبغي. المشهد الحالي يشي بأن إيران، رغم قوتها التسليحية وتكتيكاتها المنتشرة في المنطقة عبر أذرعها، لم تستثمر اللحظة الاستراتيجية كما ينبغي. لا بل إن حساباتها المترددة تذكرنا بحروب خسرها أصحابها بسبب التأخير، لا بسبب الضعف.
من المؤسف القول إن التجارب السابقة لأذرع إيران في المنطقة لم تكن كافية لتعليم الدروس، بل ربما أسيء فهمها. فحزب الله، وهو الذراع الأقوى والأكثر صلابة في محور المقاومة، أطلق خلال الأشهر الأخيرة أكثر من 12 ألف صاروخ، واحتفظ بوتيرة مناوشات مستمرة على الجبهة الشمالية للكيان، لكنه لم يذهب إلى الضربة النوعية المزلزلة التي تغير قواعد الاشتباك.
وهنا مكمن الخطأ القاتل. فإسرائيل، بنهجها الدموي وأدواتها الغربية الداعمة، لا تردعها المناوشات ولا تؤلمها القذائف المحدودة، بل تتقن استغلال الفراغات، وتوظف كل لحظة تردد لصالحها. ولذلك فإن مرحلة "الانتظار" التي اعتمدها حزب الله، وكان يتصور أنها جزء من "ضبط النفس الاستراتيجي"، كانت كفيلة بإعطاء العدو متسعًا من الوقت للتحضير، والتعزيز، واستهداف ما يشاء، متى يشاء.
وعلى غرار ذلك، تبدو إيران الآن وكأنها تمشي على الحبل ذاته. تأمل في وعود مفاوضات، وتصغي لتطمينات الوسطاء، وتتماهى مع عبارات أمريكية براقة عن "ضبط النفس"، و"تهدئة التصعيد"، و"عدم توسيع دائرة الحرب". وكأنها لا تدرك أن هذا الخطاب الناعم هو ذاته السيف الخفي الذي أجهز به على العراق، ثم ليبيا، ثم سوريا، والآن لبنان، وما بعدها.
إنها حرب وجود، لا تصلح فيها لغة المساومة، ولا مجاملة الوقت. فإما أن تضرب إيران بكل ما تملك، بأقصى شدة، وبأقوى الأسلحة وأكثرها دقة ودمارًا، أو أنها ستستهدف تدريجيًا، وتستنزف عسكريًا واقتصاديًا، وتفتح أمامها أبواب الفوضى الداخلية، ويسلط عليها سيف المعارضة المنظمة، ويبدأ الغرب بالتلاعب من الداخل، كما فعل بالعراق في لحظة الانكسار، وكما يفعل اليوم بلبنان في لحظة الوهن.
الخطورة لا تكمن في الضربة العسكرية فقط، بل في الحسابات السياسية التي تراهن على حسن نية الغرب، أو على "ضمانات" الوسطاء. فالتاريخ يعج بنقض العهود والمواثيق، والأمثلة شاهدة من فلسطين إلى فيينا. فكيف يمكن لإيران، التي اكتوت أكثر من مرة بنيران الخداع الغربي، أن تثق بكلام تذريه الرياح؟!.
على صانعي القرار في طهران أن يعيدوا النظر فورًا، ويكسروا دائرة الانتظار القاتلة، ويشنوا الهجوم قبل أن تجهز عليهم حرب الاستنزاف التي تستهدفهم من فوق الأرض وتحتها، من الجو والبحر، ومن خارج الحدود وداخلها.
ما زالت أمام إيران فرصة سانحة، ولكنها تضيق كل ساعة. فإن أرادت أن تفهم إسرائيل أن زمن العربدة انتهى، فعليها أن تضرب أهدافًا، لم يضربها الكيان لديها، و أن تبادر لا أن تتراجع، أن تصنع الحدث لا أن تدهش به. فالمعركة المصيرية لا تخاض بنصف قرار، ولا تربح بسياسة النفس الطويل وحدها. بل تحتاج إلى شوكة لا تنكسر، ونار لا تخبو، وقبضة تضرب حين ينبغي أن تضرب.
أما إن مضت إيران في نفس الطريق الذي سارت فيه بغداد ذات يوم، أو تماهت مع تحفظات حزب الله في معركة المصير، فإن المشروع الاسرائيلي سيفتح نوافذه كلها نحو طهران، وسيبدأ الغرب في تقويض الداخل، تمهيدًا لانقلاب من الداخل، وتشظ في الإقليم، وانهيار يطال كل من تبقى واقفًا في وجه آلة الإبادة الغربية.
في لحظات التاريخ الكبرى، لا قيمة للحسابات الرمادية، فإما أن تكون في ميدان الصراع لاعبًا فاعلًا، أو تكون مجرد رقم في دفتر الخسائر.
وها هي اللحظة الآن، فإما أن تغتنم، أو يأتي الندم بعد فوات الأوان.