التكنولوجيا تتقدّم… لكن هل تراجعت الإنسانية؟
د. صالح سليم الحموري
17-06-2025 06:40 PM
لقد كتبت كثيرًا — بل ربما أكثر مما ينبغي — عن حكومات المستقبل، عن التكنولوجيا، عن الذكاء الاصطناعي، وعن كيف يمكن للبيانات أن تتنبأ، وللخوارزميات أن تقرّر، وللروبوتات أن تعمل بدلًا من البشر. لكنني اليوم، وبعد الاستماع إلى خطاب العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، وجدتني أتوقف لأطرح سؤالًا وجوديًا: ما جدوى كل هذا التقدّم، إذا كانت القيم تتراجع، والعدالة تبهت، والإنسانية تنحدر أمام أعيننا؟
في خطاب مؤثّر وحاسم، أطلق الملك عبدالله تحذيرًا أخلاقيًا عالي النبرة: العالم يقف اليوم عند مفترق طرق خطير — بين منطق القوّة ومنظومة القيم، بين حكم القانون وحكم الغلبة، بين أن نبني مستقبلًا ذكيًا… أو أن نفقد إنسانيتنا بالكامل.
استهلّ الملك كلمته باستعادة خطابه الذي ألقاه في القاعة ذاتها قبل خمس سنوات، حين دعا إلى عالم أكثر عدالة، قادر على إنهاء الصراعات وحماية الكرامة الإنسانية. أما اليوم، فالمشهد الدولي يزداد ظلمةً وتعقيدًا: حروب دامية في أوكرانيا وغزة، تصاعد في التوترات الإقليمية، وواقع تتبدّد فيه الحقائق وتُستباح فيه المبادئ كل دقيقة.
في وصف موجع لما يجري في غزة، أشار الملك إلى أن ما كان يُعدّ قبل عامين "جريمة كبرى" — كقصف المستشفيات أو قتل الصحفيين — بات اليوم حدثًا يوميًا لا يُثير استنكارًا عالميًا، بل يمرّ وكأنه جزء من روتين طبيعي. هذا الانحدار الأخلاقي، كما وصفه، يعكس فشلًا جماعيًا في حماية الإنسان، ويهدد جوهر إنسانيتنا.
وفي بادرة أمل، أشاد الملك بتجربة أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين اختارت القارة أن تتجاوز آلام الماضي لصالح مستقبل مشترك، قوامه السلام والتفاهم. وقال إن أوروبا أدركت أن الأمن الحقيقي لا يُبنى بالقوّة، بل على أساس التعاون والصداقات. ودعا العالم إلى الاقتداء بهذه التجربة، وتغليب الكرامة الإنسانية على منطق السيطرة والغلبة.
كما شدّد على أن الفلسطينيين، كغيرهم من شعوب العالم، يستحقون الحرية والسيادة ودولة مستقلة. وما يجري في غزة والضفة الغربية، بحسب كلمته، يُمثّل خرقًا فاضحًا للقانون الدولي، وتقويضًا ممنهجًا للقيم التي تأسس عليها النظام العالمي.
وجدد الملك التزام الأردن التاريخي بحماية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، ورفضه القاطع لانتهاك حقوق الأبرياء، مؤكدًا أن حماية الأطفال والنساء ليست شعارات، بل واجب أخلاقي وإنساني لا يقبل التنازل.
"العالم اليوم لا يحتاج إلى مزيد من التكنولوجيا، بل إلى قرارات أخلاقية شجاعة تُعيد تعريف هويتنا كأفراد وقادة ومجتمعات."
وأشار إلى أن طريق السلام معروف، لكنه يحتاج إلى إرادة جماعية وشجاعة حقيقية للسير فيه، بعيدًا عن الانحدار نحو التوحّش والفراغ القيمي.