facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




سرّ المواويل في شقوق الجدران


أ.د سلطان المعاني
18-06-2025 09:13 AM

لا نشيخ ونحن نكتبك، يا أيها المعنى الذي يسكننا، يا سِرّ المواويل في شقوق الجدران، يا عناق الأزمنة إذ تلتقي الأرواح عند منحدر الضوء، ولا تنتهي. نحن لا نخون مشاعرنا، ولا نترك للريح أن تعصف بها، لأننا أبناء وطنٍ علّمنا أن الكرامة لا تُباع، وأن الانتماء ليس كلمة عابرة.

مهما تاهت الدنيا في دروبها، ومهما تغيّرت مسارات الحياة من حولنا، نبقى أوفياء لوطننا، يرسم لنا الطريق، ويعيدنا إلى جادتنا إذا أعيانا المسير. نحن لا نخون مشاعرنا، لأننا نحمل قلوباً أروتها سماء الوطن بمطرها الأول.

فينا يسكن هذا التراب كما تسكن الحكايات عيون الأطفال؛ فنحن جذور ممتدة في جوف الأرض، تتعالى أغصانها كل صباح برائحة الضوء وصهيل العائدين. الوطن عندنا دمعة في لحظة الفرح، ووتين قلب يخاف على عصفور صغير من برد الشتاء، وهو الأمل الذي يتهجّى حروفه جنود العطاء في ميدان الحياة.

حين تضيع الدنيا وتتشعب الدروب، نحن من يشعل النور في الأزقة القديمة، نرسم بالأمل ملامح الطريق، ونحمل جراح الأيام على أكتافنا كأنها أوسمة نصر. وفي الوطن عناق الأمهات إذا ضاقت الدنيا، وسلام الأرصفة حين تعود أقدامنا من تعب الغربة.

فيه سر العناق بين الغيم والزيتونة، فيه خفة السنونو إذا غرد على نافذة الشوق، فيه نبض القصائد الأولى التي كتبناها ونحن لا ندري كيف يكون العشق إلا بلون الأرض ورائحة القمح. نحن للوطن كما العاشق لدرب الحبيبة، نحفظ التفاصيل الصغيرة، نعشق جرحه كما نعشق فرحه، نحتمل صمته كما نحتمل ضجيجه، ونعود إليه في المساء كما يعود البحر لرمل الشاطئ في هدأة الغروب.

لا نحتاج لمعجزة كي نؤمن به، فكل يوم تشرق فيه الشمس على ترابه معجزة جديدة، وكل صوت طفل يضحك في حاراته وعدٌ لغد لا يفنى. نتوحد في حضرته، وننسى اختلافنا حين يجمعنا، نصبح كتفًا واحدة في وجه العاصفة، ونذوب في الحلم الكبير كحروف النشيد.

هو الحنين حين يشقينا الرحيل، وهو الدمع حين تضيق بنا الأمكنة، وهو الرجاء الذي نحمله للغد في كفوفنا الصغيرة. وإن طال بنا الزمن، وإن تبدلت الوجوه والأحلام، يبقى الوطن البيت الأول، الحلم الأول، القصيدة التي لا تنتهي.

هنا، حيث تنبت القصائد من رماد التعب، نصير أغنية في فم الريح، ونظل، رغم كل شيء، أبناء هذا الضوء، رسل هذا الدفء، حراس هذا المكان وسُمّار نجومه.

في حضرة الوطن تتداخل الأزمنة، تختلط أصوات من رحلوا بضحكات من بقوا، وتصبح المسافة بين الأمس والغد صدى واحدًا، كما لو أن الوطن قصيدة تتكرر في الذاكرة، لا تملُّها الروح مهما أعادت تلاوتها.

هنا، تتوقف اللغة عند ضفاف عِشقه، ويرتجف الحرف تحت وطأة الشوق، فلا يعود ثمة فرق بين حماسة البطل ورقّة العاشق؛ كلاهما يمشي في الدرب نفسه، يحمل جرحًا لا يرى، ويفتش عن حكاية تليق بذاكرة البلاد. الأردن هو ما لا نعرف كيف نفارقه، حتى لو أوهمنا السفر بأننا ابتعدنا. هو تلك النغمة في صوت الأم حين تهمس بالدعاء للغائبين، وهو جمر الانتظار تحت رماد الأيام.

نحن نكابر كي لا نبكي، نضحك كي لا نُهزم، ونغني للزيتون كي لا يسقط ظلّه عن الحقول. وفي لحظة انكسار العالم، ينهض الوطن فينا عنقاءً من رماد التجارب، يقص علينا حكاية الأمل حين يظن الجميع أن لا أمل، ويبذر في قلوبنا عناد العشب إذا جرفته السيول.

في الوطن، كل الأشياء تستعيد دلالتها الأولى: ورد النوافذ، أصوات المآذن في الفجر، خطوات العائدين من سوق الخبز، رائحة الياسمين في شعر البنات. حتى الألم هنا أليف، كأنه درس في الوفاء لا اختبار في الصبر. هذه الأرض لم تهدنا دربها، نحن الذين عبدنا الطريق بين الصخور، وحملنا العطش والمطر في قوارير الوقت.

في كل موسمٍ كسرنا انكسارنا وكتبنا للريح أن تكفَّ عن العبث بأشرعتنا، فما هُزم العاشق يومًا وهو يحمل نشيد الوطن بين أضلعه. هكذا، نصبح للوطن لغته العليا، وشعره الأول، وقصيدته التي لا تنتهي، ونكتب اسمنا في ذاكرة الضوء: أبناء العناق الأخير، وأوفياء الشغف القديم.

ونحن ظل الشجر حين يختصر الضوء كل ما عداه، ارتعاشة السنونو على حافة السور، قصيدة تنام في غمد النسيان وتستفيق في نداء المغيب. في دواخلنا وطن لا تدركه الخرائط، يسكن ملامح وجوهنا إذا مرت نسمة من جهته، أو تعثّر ضوء على عتبة اسمه.

نتشبث ببذرة الأرض، بخيط المطر، برائحة الخبز ساعة الفجر، كأن كل نبضة تعيد خلق البلاد من جديد. حين تتقاذفنا الرياح، نصير حجرًا صغيرًا في سور عتيق، همسة بين شفاه الجدات، حلمًا يُزهر فوق أطلال التعب. الوطن حكاية ترويها كتب التاريخ، دفءٌ في برد النسيان. لانخون مشاعرنا لأننا الماء في عطش القفر، نبض القصيدة في صمت الليل، عناق الغيم لقمح السهول. إذا ضلّت الدنيا الدرب، نرسم الطريق بأظافرنا على صدر الصخر، نبعث النور من رماد الوقت، نغني حين يشيخ الصدى.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :