حكمة الموقف وثبات المبادئ في إقليم مضطرب
م. عبدالفتاح الدرادكة
21-06-2025 08:36 PM
في قلب منطقة تشتعل بالصراعات وتتصارع فيها القوى الكبرى على النفوذ والمصالح، يقف الأردن بخصوصيته الجغرافية والسياسية في موقع بالغ الحساسية والدقة. فالمملكة، التي تتقاطع حدودها مع فلسطين وسوريا والعراق والسعودية، تجد نفسها اليوم بين نارين: نار التصعيد الصهيوني وعدوانه المتكرر على غزة والضفة وإيران، ونار الضغوط الإقليمية والدولية التي تحاول دفع الدول الصغيرة إلى تبنّي مواقف تتجاوز قدراتها وتهدد استقرارها الداخلي.
من هنا، تتضح أهمية ما جاء على لسان جلالة الملك عبدالله الثاني والمصادر الرسمية الأردنية التي أكدت – وبكل وضوح – أن الأردن ليس ساحة لحرب ولا ساحة لتصفية حسابات أو تمرير أجندات دولية. وبيّنت هذه التصريحات أن سماء الأردن ليست مفتوحة لطرف على حساب طرف آخر، لما في ذلك من خطر جسيم على مبدأ الاستقرار، الذي لطالما شكل نعمة وطنية تمسّك بها الأردنيون بكل وعي ومسؤولية.
نعم، عاطفتنا الجياشة كأردنيين مع شعبنا الفلسطيني الشقيق، وأمنياتنا الكبرى تتلخص في كبح جماح التعنت الصهيوني ووقف عدوانه المتواصل على غزة والضفة، ووقف استباحته للسيادة الإيرانية ولدماء الأبرياء، لكن هذه العواطف لا يمكن أن تتحول إلى مغامرات غير محسوبة. فالموقف الأردني في جوهره نابع من التزام عميق بالحفاظ على الأمن الوطني، وعلى استقرار الدولة في وجه التحديات الإقليمية الهائلة، وفي ضوء الإمكانيات المتاحة، ومن حرص حقيقي على أمن وأمان المواطن الأردني وسط عالم يترنح تحت أعباء الفوضى والحروب.
العدوان الصهيوني الأخير على إيران، وما سبقه من تدمير ممنهج لغزة ومحاولات خنق الضفة الغربية، لم يكن مجرد تحرك عسكري بل تأكيد متجدد على الطبيعة العدوانية التوسعية للكيان الصهيوني. كيان لا يعترف بالقوانين الدولية، ولا يراعي إنسانية الشعوب، ويتصرف بمنطق العصابة المارقة، متسلحًا بدعم غربي وأمريكي غير محدود، تغذيه مصالح مشتركة وتحركه هيمنة لوبي صهيوني فاعل في مراكز صنع القرار العالمية.
ولولا هذا الدعم الغربي الأمريكي، والتفوق التكنولوجي والعسكري الذي أُعطي للعدو، لما تمكن من الصمود في وجه الجيوش العربية، كما أثبتت معركة الكرامة المجيدة عام 1968، وحرب أكتوبر المجيدة عام 1973، عندما التقت الإرادة الشعبية والعسكرية العربية في لحظة تاريخية من الصمود والنصر، لولا ما شاب الحرب من ثغرات مثل “الدفرسوار” التي غيّرت المسار في النهاية.
العدوان الصهيوني على إيران اليوم، واستمراره في تدمير غزة وتجويع أهلها ومحاولة إجهاض المقاومة في الضفة، ليس سوى فصل من فصول الحلم التوسعي الصهيوني لإقامة “دولة يهودية” تمتد من النيل إلى الفرات، ضاربة بعرض الحائط كل الاتفاقيات والتفاهمات السابقة، ومستهترة بالتطبيع والرهانات عليه.
إن الثقافة الصهيونية بطبيعتها تقوم على السيطرة، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو إعلامية، وليس من باب المصادفة أن نجد تمثيلًا مبالغًا فيه لليهود في الإدارات الأمريكية، يفوق نسبتهم الحقيقية داخل المجتمع الأمريكي. كيف يمكن تفسير وجود أكثر من عشرة وزراء يهود في حكومة أمريكية واحدة، في حين أن عدد اليهود في العالم لا يتجاوز 30 مليون نسمة، وفي الولايات المتحدة فان عدد اليهود لا يزبد على 8 ملايين وبنسبة لا تزيد على 2.6% من سكان الولايات المتحدة الأميركية والبالغ 340 مليون أمريكي؟!
في ضوء كل ما سبق، فإن المطلوب منّا كأردنيين اليوم هو الالتفاف حول القيادة الهاشمية الحكيمة، وتفهم حقيقة الموقف الرسمي الذي يوازن بين عواطفنا القومية والواقع الجيوسياسي المعقد. ليس المطلوب من الحكومة أن تدخل في مغامرات عسكرية لا طائل منها، بل أن تبقي الأردن بعيدًا عن دوامة الحرب التي عصفت بجيراننا، وزعزعت استقرار شعوب بأكملها.
ولمن يخالف هذا الرأي، نقول: انظروا إلى ما آلت إليه دول كانت أكثر قوة من الأردن عندما رفعت شعارات التحدي غير المدروس. العراق مثال واضح، واليوم إيران، التي ربما تجد نفسها في قادم الأيام تحت طائلة لجان التفتيش الدولية، وربما حصار اقتصادي جديد، وقد تعود معها مشاهد برنامج “النفط مقابل الغذاء”، وربما حتى “البرادعي” نفسه يعود للواجهة!
إن حكمة الأردن اليوم هي رصيده الأكبر، وإن الاستقرار ليس ضعفًا بل قوة تحمي الدولة والمجتمع، وتمنحنا القدرة على دعم قضايانا القومية بطرق أكثر فاعلية واتزانًا. ولن يبقى شيء من الحق يضيع، ما دام هناك من يتمسك به، ولو بالصبر والوعي والتخطيط، فإن الغلبة في النهاية تكون لأصحاب الحق.
والله من وراء القصد.