العقل كمشروع حياة .. كيف نُحسِّن جودة حياتنا؟
آية عويدي العبادي
25-06-2025 04:17 PM
من خلال الدراسات الأكاديمية، والمراجع العلمية التي وُظِّفت لخدمة الإنسان في علم النفس، وجدتُ أن من الجميل أن نكتب عمّا يُسعد الإنسان؛ لأن السعادة قرار، وتنبع من النفس الإنسانية، لا من الخارج؛ وإن اتخذ الإنسان هذا القرار، فسوف يُراجع قراراته، ويُغيِّر نمط تفكيره، ونظرته إلى العالم، وإلى ذاته، ومحيطه الاجتماعي، كما سيضع خططًا حياتية تعود عليه بالنفع والفائدة.
العقل مشروع الإنسان الأول؛ حين بدأ الإنسان يخطو أولى خطواته على الأرض، لم تكن قوته في الجسد فحسب، ولا في السرعة، ولا في الحواس وحدها، بل في شيء مختلف تمامًا: العقل؛ منذ البدايات، كان العقل مشروعه الأول، مشروعًا لم يتوقف عن التطور؛ هو ذلك الجزء اللامرئي منه، لكنه الذي به استوعب، وخطّط، وتذكّر، وتخيّل، ومن خلاله بدأ يُشكّل عالمه بدل أن يكتفي بالتكيّف معه.
اليوم، في عالم مزدحم بالتقنيات والمثيرات، يعود السؤال القديم بثوب عصري: كيف يمكننا أن نُوظّف عقولنا بشكل أفضل؟ ليس فقط لننجح أو نتقدّم، بل لنُحسِّن جودة حياتنا من الداخل؛ لنعيش بعمقٍ أكثر، واتزانٍ أكبر، وبقدرةٍ أوضح على التقدير، والاختيار، والتقدّم.
من منظور علم النفس، وهو مجال دراستي وعملي، العقل ليس أداة تفكير فحسب، بل منظومة نفسية معرفية شاملة؛ تشمل الانتباه، والذاكرة، والتحليل، والتخيّل، واتخاذ القرار؛ وكل واحدة من هذه الوظائف يمكن أن تُدرَّب، ويمكن أن تُستخدم إما لتدوير المعاناة، والخبرات، والذكريات، والتجارب؛ أو لصناعة التغيير في حياة الإنسان.
أولى الخطوات نحو تحسين جودة الحياة تبدأ من إدراك أن الأفكار ليست انعكاسًا محايدًا للواقع، بل هي ما يُصوغ إدراكنا له؛ الإنسان الذي يُعيد التفكير في مواقفه، وتفسيراته، وأحكامه المسبقة، يملك مفتاحًا حقيقيًا لتغيير مشاعره، وتعديل سلوكياته، والتفاعل بشكل أكثر مرونة مع الحياة. وهذا ما تؤكده المدرسة المعرفية في علم النفس: غيّر فكرتك، يتغير شعورك، وبالتالي يتغير سلوكك.
لكن توظيف العقل لا يعني فقط التفكير الإيجابي السطحي، بل ممارسة عقلانية مرنة، مبنية على التأمل والتحليل؛ فـتحسين جودة الحياة يتطلّب أن نصنع مسافةً بين الحدث وردّ الفعل، وأن نُدرّب عقولنا على التوقّف، وإعادة التقييم، ووضع الأمور في سياق أوسع وأكثر هدوءًا.
كذلك، يمكن للعقل أن يكون أداة لترتيب الداخل النفسي، لا فقط لفهم الخارج؛ فالتفكير المنظَّم، والكتابة التأملية، وتحديد الأولويات، كلها مهارات عقلية تُعين الإنسان على تخفيف التشتت، وإعادة التوازن إلى حياته؛ حين يُفعّل العقل بهذه الطريقة، يصبح قوةَ تنسيق داخلية تُعيد ضبط الإيقاع، وتُقلّل من الضوضاء النفسية التي تُسبب التوتر والانفعال الزائد.
التفكير المستقبلي أيضًا جزء جوهري من هذا المشروع العقلي؛ فالعقل الذي يتعلّم وضع أهداف واضحة، وتجزئتها، ومراجعة تقدّمه، يمنح صاحبه شعورًا بالاتجاه والمعنى؛ وهما عنصران أساسيان في جودة الحياة. ليس من الضروري أن تكون الأهداف عظيمة، بل أن تكون واقعية، تُحرّك الطاقات بدل أن تُثقِلها.
وفي قلب كل ذلك، تأتي مهارة المرونة المعرفية؛ أي القدرة على تغيير وجهة النظر، وتوسيع زاوية الفهم، وتقبّل التناقض. من هنا يأتي التقبُّل، والتفهُّم، وإعطاء الكلمة وزنها، والسمع مكانه؛ الإنسان الذي يُدرّب عقله على ألا يتصلّب أمام الصعوبات، بل يُعيد تأطيرها بطرق بديلة، هو أكثر قدرة على تجاوز الأزمات، وتحويل الألم إلى خبرة!
العقل ليس مشروعًا مكتملًا، بل قابلًا للتحديث الدائم؛ يمكن تعليمه، وتنميته، وصقله بالتجربة، والقراءة، والحوار، والتأمل. وكل إنسان، مهما كانت ظروفه، يملك مساحةً للتطوير الداخلي، تبدأ من هذا المكان: أن يعرف كيف يُفكّر، لا فقط بما يُفكّر.