يتفرد رأس السنة الهجرية بموقع رمزي في الوعي الجمعي الإسلامي، فهو يشكل تحوّلًا جوهريًا في فلسفة الزمن ومعنى الوجود الجمعي، إذ ارتبطت فكرة الزمن الهجري بالفعل المؤسس الذي قلب موازين التاريخ، وأرسى معايير جديدة للهوية، والحرية، والاختيار. فالهجرة، في أصلها، لم تكن هروبًا ولا بحثًا عن مكان آمن فقط، وإنما كانت حركة وعي عميق أراد أن يصنع أفقًا جديدًا للمعنى، وينتقل من ضيق الاستكانة إلى رحابة البناء. كل بداية هجرية ليست إلا تذكيرًا ضمنيًا بقيمة الخروج من المألوف، وبحث الإنسان الدائم عن فضاء يحتمل صدق الكلمة ونبل الفكرة.
ولا يمكن فصل فلسفة الهجرة عن جدل الجغرافيا والزمان والروح؛ فالخروج من مكة لم يكن مجرد انتقال من بقعة إلى أخرى، فقد كان انعتاقًا من نظام مأزوم إلى إمكانات غير مكتشفة. فقد جعلت الهجرة من التحول نفسه قيمةً مطلقة: أن تغادر حيث لا تملك سوى الحلم، وتخطو في المجهول متوكّلًا على وعد داخلي بأن للمعنى قدرة على الاستمرار، حتى حين تشتد العواصف. هنا، يتكشّف البعد الإنساني للهجرة باعتبارها فعلاً حضاريًا يتجاوز الحدود الفيزيائية ليعيد تشكيل علاقة الإنسان بذاته وبالعالم. فهي فعل تحرر يتكرّر بصيغ متعدّدة في تاريخ الشعوب: من هجرة إبراهيم في بحثه عن اليقين، إلى هجرة موسى خائفًا يترقب، ثم إلى هجرة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام حين ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ليُعاد إنتاج معنى الأمان في فضاء المدينة، حيث انصهرت القبائل والمصالح في كيمياء المجتمع الجديد.
صاحب الهجرة، النبي محمد صلى الله عليه وسلم، يمثل في المخيال الإنساني المثال الأعلى لمن يقود الجماعة في لحظات المخاطرة، فلا ينكفئ على ذاته، ولا يستسلم لقسوة العزل. وهو الذي يحمل في قلبه يقين الأنبياء بأن الأرض، على ضيقها، قابلة للامتلاء بالعدل إذا غامر الإنسان بالتغيير. إن الهجرة بهذا المعنى ليست حدثًا فرديًا؛ إنها بنية جماعية، تتأسس فيها الروابط على الشراكة في الخوف والأمل، وتُختبر القيم على محك التضحية، وتنبعث روح البناء الجماعي حين يفتح القادمون والمستضيفون أبواب التآلف، فتنمو مدينة فريدة، خارج الجغرافيا المعتادة، وتنمو معها لغة جديدة للعيش المشترك.
تتجلى فكرة الهجرة بالمطلق في كل تحول وجودي أو حضاري يعيشه الفرد أو المجتمع. كل خيبة تُفضي إلى بداية جديدة، وكل انسداد يُمهد لتحوّل مفاجئ في مسار الحياة. فالهجرة قدر الإنسان حين تضيق به أنظمة الجمود، وحين يبحث عن فضائه الخاص في عوالم مفتوحة، وحين يقرر أن يقفز من ضفة إلى أخرى رغم المخاطر. كثيرًا ما تتكرر الهجرة في رمزية الحياة المعاصرة: حين يترك الإنسان موطن الروتين ليبني ذاته في الغربة، حين يعبر حدود الجهل نحو نور المعرفة، أو حين يختار أن يتحرر من قيود العادة ليعيد ابتكار وجوده. إنها حركة الوجود في أعمق مستوياتها: لا تسكن إلا من أجل التحوّل، ولا تكتمل إلا حين يصبح الخوف ذاته جزءًا من الرحلة، ويغدو الأمل ممارسة يومية في مواجهة الرياح.
لذلك تستعيد رأس السنة الهجرية، في كل دورة، ذاكرة الإنسانية حول إمكان التغيير. تذكّرنا أن الوجود لا يتحدد بالبدايات وإنما بإرادة العبور، وأن كل عتبة جديدة تحمل في داخلها احتمالات لا نهائية للانبعاث. فالهجرة، في عمقها، انتقالٌ بين مكانين، وولادة مستمرة لمعنى جديد، تتجدد به روح الجماعة، ويُعاد به تعريف مفهوم الوطن، فلا يبقى مجرد حدود، ويتحول إلى أفق مفتوح للكرامة والمساواة، وينبع فيه الإحساس العميق بالانتماء إلى القيم العليا، حيث يغدو الإنسان جزءًا من تجربة أكبر من ذاته، تجربة البحث عن الجدوى والسعي نحو تحقيق مغزى الوجود، فتكتمل الهجرة حين يصبح الوطن معنىً يسكن الروح قبل أن يكون أرضًا تسكن الجسد.