مؤتمر القدس وإلغاء الانتداب البريطاني
أ.د سلطان المعاني
27-06-2025 01:53 PM
في مثل هذا الشهر من صيف عام 1921، اجتمع وجهاء القدس وقادة الجمعيات الوطنية في قلب المدينة القديمة، تتداخل في أصواتهم رهبة المرحلة وإحساس متصاعد بأن مستقبل فلسطين كله على المحك. كانت أجواء ذلك الزمن مشحونة بالقلق، فبعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية، أضحت فلسطين تحت سلطة الانتداب البريطاني، وغدت السياسات الجديدة تهدد هوية الأرض وسكانها العرب عبر تنفيذ بنود وعد بلفور الذي وعد اليهود بوطن قومي على أرض فلسطين.
جاء مؤتمر القدس كصرخة واعية من قلب الأمة في مواجهة هذا المصير، فالمجتمع المقدسي أدرك أن ساعة الحسم تقترب، وأن السكوت لم يعد خيارًا ممكنًا أمام زحف الهجرة اليهودية المدعومة من السلطة البريطانية وتجاهل صوت أصحاب البلاد الأصليين.
انعقد المؤتمر في الخامس والعشرين من يونيو، في جو تملؤه الحماسة والتوتر. دخل المجتمعون القاعة وهم يحملون ثقل التاريخ فوق أكتافهم، تدور في مخيلاتهم صور الوطن المهدد وقيم العدالة التي أرادوا تثبيتها في وجه المتغيرات. لم يكن هدف المؤتمر مجرد الاعتراض الشكلي، فقد جاء المشاركون بمطالب واضحة ومباشرة: إلغاء الانتداب البريطاني على فلسطين ورفض وعد بلفور تمامًا، وإعلان استقلال فلسطين بوصفها جزءًا من الأمة العربية الكبيرة، مع إصرار على بناء نظام نيابي ديمقراطي يعبّر عن إرادة الناس لا إرادة القوى الأجنبية. وفي نقاشاتهم، كان الإحساس بالخطر حاضرًا بقوة، فقد رأوا في مشاريع الاستيطان والسياسات البريطانية تهديدًا وجوديًا للهوية والحقوق والذاكرة الجماعية.
تُروى شهادات المعاصرين أن المجتمعين في المؤتمر كانوا يدركون أن كلماتهم قد لا تغير المعادلات الدولية فورًا، لكنهم آمنوا أن تثبيت الموقف الوطني في وثيقة جامعة وإعلانها أمام الملأ سيؤسس لمرحلة جديدة من النضال، ويمثل رسالة قوية لكل من في الداخل والخارج بأن الفلسطينيين لن يقبلوا بأن يكونوا غرباء في أرضهم. في جو يسوده الحذر، قرروا إرسال وفد يمثل صوت فلسطين إلى العواصم الأوروبية لعرض المطالب العادلة، لكن الوفد اصطدم بجدار الرفض الأوروبي، فمصالح الدول الكبرى والتزاماتها تجاه المشروع الاسرائيلي بدت أقوى من مناشدات الحق أو العدالة. ومع ذلك، ظل هذا التحرك نقطة تحول في الوعي الوطني الفلسطيني، إذ وحّد أصوات النخب وأطلق ديناميكية جديدة في مقاومة مشاريع التهويد والاستعمار.
أما رد الفعل البريطاني، فجاء حذرًا ومرتبكًا في آن، إذ سارعت السلطة إلى محاولة امتصاص غضب الشارع عبر تعيين الحاج أمين الحسيني مفتيًا للقدس وتشكيل المجلس الإسلامي الأعلى، وأتبعت ذلك بإصدار تصريحات رسمية تؤكد أن إنشاء "وطن قومي يهودي" ليس ضمن مخططاتها، في محاولة لتهدئة المخاوف وتخفيف حدة المعارضة. لكن الفلسطينيين بقوا على يقين بأن انتزاع حقهم في تقرير المصير لا يأتي بالوعود الدبلوماسية وإنما بالإصرار والصمود وتنظيم الصفوف. فقد شكّل مؤتمر القدس لحظة وعي جماعي بأن القضية الفلسطينية مسألة وجودية ترتبط بمصير الأمة العربية كلها، وضرورة الدفاع عن الكرامة والهوية والمستقبل في وجه العواصف الدولية.
على امتداد عقود لاحقة، ظل صوت مؤتمر القدس يتردد في الضمير الوطني، إذ صار رمزًا لأول محاولة فلسطينية صريحة لتحدي قرارات القوى الكبرى، وتأكيد حق الشعب في الأرض والحرية والاستقلال، ومن رحم هذه اللحظة ولدت الحركة الوطنية الفلسطينية وتبلور الخطاب السياسي الذي سيقود نضالات الأجيال. كان مؤتمر القدس أكثر من حدث عابر في روزنامة التاريخ؛ لقد كان نقطة البدء في مقاومة النسيان ومواجهة التهميش، وإرثًا معنويًا ظل يمنح الفلسطينيين معنًى للثبات رغم تبدل الأزمنة وتوالي التحديات.