يوميات الجوع والحيوان (النَّتِن)
أ.د سلطان المعاني
28-06-2025 10:46 AM
يشي هذا العنوان بسردية حادة تمزج بين الفجيعة اليومية وشراسة الحيوان الذي يتسلل من هامش الحياة إلى مركز المشهد. الجوع هنا حالة بيولوجية، وكينونة كاملة تتسلل إلى الروح قبل الجسد، تعيد تعريف العلاقات والأخلاقيات وحدود القيم. أما الحيوان، وقد اقترن بوصف "النَّتِن" (إسقاطاً)، فهو ذلك الكائن الذي تلوَّث بفساد الزمان، وصار يقتات على بقايا العالم المنسي، وتجلى على هيئة بشر.
في يوميات الجوع، ينقلب الزمن إلى نهشٍ متواصل، حيث ينحسر ضوء الرغبة إلى مجرد رمق نجاة. تُرى العيون أضيق من ثقب الإبرة، تفتش في فراغ الأطباق عن صدى نكهةٍ رحلت، وفي رائحة الخبز اليابس عن ذاكرة أمهات كن يخبزن الحنين مع القمح. كل يوم يبدأ ولا ينتهي، ينحسر فيه الأمل إلى فتات يتناثر في زوايا العراء، بينما الحيوان يجلس هناك، على حافة الحكاية، يتشمم الريح، يتربص بضعف البشر. لم يعد يختبئ بين الأغصان ولا يقتفي أثر القطيع في البرية، وصار يمرغ نفسه في النفايات، يقتات على الفساد، ويُزاحم الإنسان على موائد الخراب.
تصبح اليوميات رقصة طويلة بين الضحية والمفترس، حتى تلتبس الأدوار: ترى الجائع وهو يحلم بالافتراس، والحيوان يتقمص هيئة إنسان فقد عينه الثالثة. تمر الليالي كأنها نسخ مشوهة من الخوف، ويطول الشتاء في العظام حتى ينسى الجسد طعم الدفء. في كل صباح يفيق الجائع على صوت معدته المتقلصة، وعلى خطى الحيوان خلف الجدار. كلاهما يطارد الآخر في دوامة الفقد، كلاهما صار جزءاً من خراب المكان.
تتبدد الحدود بين ما هو حيواني وما هو بشري، ويتحول الجوع إلى فلسفة للبقاء، يفتك بالقيم ويعيد رسم خريطة الشرف والذل. أما الحيوان النتن، فهو الوجه الآخر للمدينة عندما تنكر أبناءها. هو المرآة التي يرى فيها الإنسان أسوأ احتمالاته، حين ينقلب إلى حيوان يلبس القذارة قناعاً. هناك، في الظلال، يُكتب تاريخ آخر، لا يحفظه المنتصرون ولا يقف عنده المؤرخون. إنه تاريخ من قضمه الجوع، ونهشه الحيوان، ثم دفنه الصمت.
يتحوّل الليل في هذا السِّفر إلى قاعٍ عميق يطفو فيه العجز مثل قوارب مثقوبة، وتتكاثف فيه رائحة العفن حتى لا تعود تميّز بين لحم الذئب وجلد الإنسان. لا يُصغي أحد إلى نشيج المعدة وهي تُعرب عن يأسها، ولا تُجدي مواساة الذكريات التي استحالت إلى أشباح تائهة. تسقط اللغة من الأفواه المتشققة، وتنزلق الكلمات في مستنقع الحاجة، فلا يبقى من الكبرياء سوى خيط رفيع يوشك أن ينقطع في أية لحظة. وحدها العيون تُحسن الكلام في الظلمة، تحدق في العدم كما لو أنها تستدعي معجزة، أو لعلها تلعن الظروف الذي قذفتها في حضن هذا المسغبة. في ذلك البرزخ، يُعاد تعريف الإنسانية: يذبل فيها الحياء، وتُسحق الأعراف، وتنكشف النوايا كما ينكشف العظم تحت جلد واهن. ينتظر الجميع بزوغ فجر لا يأتي، ويتواطأ الجميع مع الجوع حتى صار أنينهم مجرد نغمة باهتة في سمفونية الذئب النتن.
تلك هي يوميات النتن التي لا تُروى، ولا تليق بالبطولات. يوميات بلا مجد، كُتبت بروح معطوبة، في زمن ذئب نتن، وجوعٍ لا يرحم.