لقد بلغ الذكاء الاصطناعي في صناعة المحتوى مرحلة متقدمة تثير الذهول والقلق معًا، حيث تمكن من تقليد الأصوات وتوليد النصوص، وتجاوز ذلك إلى تركيب الكلمات على أفواه الشخصيات الحقيقية، سواء كانوا رؤساء دول أو فنانين أو علماء، حتى يصير من العسير على العين المجردة أو الأذن غير المدربة أن تفرّق بين ما هو حقيقي وما هو مختلق.
في هذا السياق، لم تعد المسافة بين الواقعي والافتراضي سوى خيط رفيع قابل للإمحاء في أي لحظة، ومعه تصبح مقولة "رأيت بعيني وسمعت بأذني" غير كافية للاستدلال على الحقيقة. إننا إزاء حقبة جديدة ينصهر فيها الزيف مع الحقيقة، وتغدو صناعة "الخطاب" سلعة يمكن هندستها، وتوزيعها، وتلبيسها أقنعة من الوقار والمصداقية بفضل تقنيات التزييف العميق والبرمجيات التي لا تكلّ ولا تملّ من استنساخ الأثر الإنساني في الصوت والحركة والنبرة والتعبير.
وأمام هذا التحوّل المزلزل، يُصبح لزامًا على كل متلقٍ ألا ينخدع بالظاهر، وأن يُعيد اختبار كل خطاب عبر العودة إلى سيرة القائل، وتاريخه، وسياق الحدث، وتحليل الخلفية والنية، والبحث في منطقية الموقف واتساقه مع ما سبق أن عُرف عن صاحبه. فلا يكفي أن يُسمع القول حتى يُصدق، وينبغي أن يمحّص ويُختبر عبر أدوات الشك الإيجابي؛ ذلك الشك الذي يهدف إلى بناء يقين يستند إلى وعي نقدي وثقافة تدقق في الرواية قبل أن تنحني أمام سلطة الصوت والصورة.
لقد أضحى الوعي الثقافي والفكري هو الحصن الأخير في مواجهة عصر التزييف؛ حيث تتداخل الوقائع مع الأوهام، ويشتبك الواقع مع المتخيل في مشهد قد يغوي العقول السطحية بالانقياد وراء كل جديد وصادم. إن جوهر المسألة بات معلقًا على قدرة الأفراد والجماعات على إعمال العقل، وتحري مصادر المعلومات، وتفكيك الخطاب إلى عناصره الأولية، ثم إعادة تركيبه في ضوء معايير الصدق والمنطق والتجربة التاريخية، وإلا فقد نجد أنفسنا أسرى عصر لا يمكن أن نفرق فيه بين من قال ومَن نُسب إليه القول، ولا بين حقيقة تُبنى وزيف يُسوَّق.
ولم تعد المسألة تتعلق فقط بالتمييز بين "الحق" و"الباطل"، ولكن بقدرتنا على إنتاج أدوات معرفية ومنهجية تتيح لنا العبور الآمن بين ضفاف الزيف والصدق، وتحمي وعينا من الغرق في بحر هائج من الأخبار المصنوعة، والخطابات الملفقة، والأصوات التي تتقن ارتداء أقنعة غيرها. فكلما ارتقى وعي المجتمع وثقافته، أمكن له أن يقاوم هذا السيل الجارف من الزيف، ويظل متمسكًا ببوصلة الحقيقة في عالم لا يكاد يُعرف له وجه ثابت.