بين ولاية الفقيه والثقافة الليبرالية
أ.د سلطان المعاني
03-07-2025 12:19 AM
إذا ما نُظر إلى الحرب الأخيرة بين إيران من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية والكيان الإسرائيلي من جهة أخرى، على أنها مجرد صراعٍ ماديّ حول امتلاك طهران للسلاح النووي، فإن ذلك سيكون اختزالًا قاصرًا لطبيعة هذه المواجهة، فإن ما يحدث هو مواجهة فكرية وثقافية عميقة بين منظومات عقائدية متناقضة، تتجاوز كثيرًا مسألة الردع العسكري أو السيطرة الجيوسياسية.
وتنبثق هذه المواجهة في جوهرها من الصراع بين مشروعين حضاريين مختلفين: المشروع الأمريكي-الإسرائيلي الذي يُمثل امتدادًا لهيمنة ثقافية ليبرالية، ترى في ذاتها نموذجًا عالميًا قابلًا للتعميم، وتعمل على نشر قيمها وأفكارها وأنماط حياتها، حتى لو اقتضى ذلك فرض هذه القيم بالقوة، سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا؛ والمشروع الإيراني الذي ينطلق من رؤية أيديولوجية دينية وثقافية، ترى في الهيمنة الغربية تهديدًا وجوديًا مباشرًا، يستهدف الهوية الذاتية والخصوصية الحضارية للمنطقة وشعوبها.
هنا، لا يكون امتلاك إيران لسلاح الردع النووي هو الهدف بحد ذاته، بل هو التعبير الرمزي والمادي عن قدرة منظومتها الفكرية على البقاء والاستمرار في مواجهة الاستيعاب أو التصفية الثقافية التي تمارسها قوى الهيمنة الغربية. إنّ ما يُقلق الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي، في حقيقة الأمر، القدرات النووية الإيرانية، والأهم من ذلك الأيديولوجية التي تقف وراء تلك القدرات، والتي تمنحها الزخمَ والقوةَ والأفقَ المفتوحَ على مستقبل مختلف عن النموذج الغربي المهيمن. هذا التناقض الفكري العميق يخلق حالة من المواجهة الحتمية، لأن كل طرف يرى في الآخر نقيضًا أيديولوجيًا غير قابل للتعايش، بل هو وجود يهدد أسس بقائه. لذلك، فإنّ الخطاب الأمريكي والإسرائيلي لا يكف عن تصوير إيران على أنها خطر وجودي على "العالم المتحضر"، بينما تصف إيران المشروع الأمريكي-الإسرائيلي بأنه الاستعمار الثقافي الجديد الذي يستهدف اقتلاع الهوية وإلغاء الخصوصيات الحضارية.
من هنا، تبرز أهمية إعادة قراءة هذه الحرب من خلال المنظور الثقافي والفكري، بدلًا من اقتصارها على الجانب العسكري أو السياسي. فهذه المواجهة في جوهرها هي حربٌ حول المعنى والهويّة، حول الحق في الوجود الثقافي المستقل، وحول القدرة على أن يكون لكل طرف رؤيته الذاتية للعالم، دون الخضوع لسطوة الآخر. وفي غياب الفهم الحقيقي لهذا العمق الثقافي والأيديولوجي، ستبقى الحلول السياسية التقليدية مجرّد تسويات مؤقتة لن تُنهِي الصراع، فهي تؤجله وتُبقي جذوره قائمةً وحاضرة.
إن الحل الحقيقي، إذا ما أردنا أن نصل إليه، لا بد أن يمر عبر الاعتراف المتبادل بين الحضارات والثقافات، والقبول بفكرة التعددية الحضارية، والتخلي عن وهم الهيمنة الثقافية الأحادية. فدون ذلك، سيظل الصراع قائمًا، والحربُ مفتوحةً، والمواجهةُ مستمرةً في صورةٍ من صور التصادم الأبدي بين رؤيتين متناقضتين للعالم، لا تترك سوى المزيد من الآلام والدمار، ولا تُخلّف إلا مزيدًا من الخوف والقلق الوجودي في قلوب شعوب المنطقة والعالم.
في الوقت الذي تقوم المنظومة الإيرانية على بنية عقائديةٍ دينيةٍ وثقافيةٍ واضحة، تستمد شرعيتها من قراءةٍ خاصة للتراث الإسلامي، ومن مفهوم ولاية الفقيه الذي يربط الدولة بالمرجعية الدينية، ويجعلها امتدادًا للمشروع الإسلامي في مواجهة التغريب الثقافي والهيمنة الغربية. هذه المنظومة ترى في نفسها نظاماً سياسياً آخر، وتعتبر وجودها وحضورها رسالةً ذات بُعدٍ عالمي، ومشروعًا فكريًا بديلًا عن النموذج الليبرالي الغربي، وهو ما يجعل الصراع مع إيران يمتد إلى ما وراء حدود المصالح السياسية والاقتصادية الضيقة، ويصل إلى عمق الهوية الدينية والثقافية، بوصفها عنصرًا رئيسًا في رسم خريطة العلاقات الدولية.
في المقابل، يمثّل النموذج الغربي -بقيادة الولايات المتحدة- نموذجًا فكريًا يرى في نفسه مركزًا حضاريًا، يتوجب على العالم اللحاق به واتباعه. هذا النموذج الذي بُني على أفكار التنوير الأوروبي والحداثة الغربية، يتبنى مفاهيم مثل الديمقراطية الليبرالية، وحقوق الإنسان، والفردانية الاقتصادية والثقافية، ويصوغها ضمن خطابٍ عالمي يدّعي الشمولية، ويَعتبر أي خروج عنه أو تحدٍّ له تهديدًا يستوجب المواجهة أو الاحتواء. وهنا تظهر إشكالية هذا النموذج الذي يصرّ على أن يكون الخيار الوحيد الممكن، وهو ما يخلق حتميةَ الصدام مع الثقافات والهويات التي ترى في هذا النموذج تهديدًا مباشرًا لوجودها واستقلالها الحضاري.