لا يمكن اختزال اضطهاد بعض مسيحيي الشرق في مجرد نزاع ديني أو طائفي. المشهد أعقد من ذلك بكثير. هو مشهد تتشابك فيه مظالم التاريخ مع انهيار للافكار واحيانا الانظمة السياسية، وتمتزج فيه هويات الأفراد بسياقات قومية مشوّهة، حيث يتحوّل الاختلاف إلى شبهة وجريمة، والتنوع إلى تهديد ضمني. في قلب هذه الفوضى، يدفع المسيحي الشرقي ثمنًا باهظًا، لا لشيء سوى لأنه يختلف.
في حلب، كما في الموصل، وفي أزقة القاهرة القديمة وشوارع عمان وبيروت، كان المسيحي جزءًا من النسيج، لا هامشًا ولا زينة. أسّس المدارس، شقّ الطرق، علّم في الجامعات، وافتتح الصيدليات. في لحظات بناء الدولة الحديثة، كان المسيحي العربي من أوائل من آمن بفكرة الوطن كمظلّة جامعة، تتقدّم على الدين والمذهب والعشيرة، فالمسيحي في طبعه مهما تديّن يستطيع فصل الدين عن الدولة.
لكن هذا الانخراط لم يحمِه من سكاكين الشك، حين انقلبت بعض رموز الدول على ذاتها، وتحوّل الوطن إلى غابة صغيرة من الأعلام المتنازعة، وتشظت الانظمة والرموز.
الاضطهاد لا يبدأ دائماً برصاصة أو تهديد مباشر أو تفجير. أحيانًا يبدأ بنظرة. بنبرة في الشارع، أو في خطبة غير محسوبة. أحيانًا بكلمة “نحن” التي لا تشمل الجميع. يتحوّل المسيحي فجأة إلى "آخر"، ضيف في بلده، وكأن مواطنته مجرّد سماح مؤقّت. يتراجع دوره في الإعلام، تُمحى سيرته من المناهج، وتُرسم صورته كما يراد لها أن تكون: إما تاجرًا قديمًا، أو صوتًا هامشيًا لا يعترض، أو زينة ترمى عليها كلمة "التسامح".
في سوريا، دفعت الحرب أبناء الأقليات، ومنهم المسيحيون، إلى خيارات قاسية. ما بين الولاء لنظام يحكم بقبضة من حديد، أو التشتت في بلاد لا تعرفهم، اضطر كثيرون إلى الصمت، ثم الرحيل. وفي العراق، كان سقوط الموصل لحظةً فاصلة. لم تكن الجماعات المتطرفة تكرههم فقط، بل كانت تستهدف ما يمثلونه: الجذور، الحضور، الحنين إلى مدينة كانت تعددية وانتهت مدينة بخوف واحد وبذاكرة دموية.
أما في مصر، فرغم الحضور التاريخي للمسيحيين، وخاصة الأقباط، في الثقافة والاقتصاد، فإن نظرة المجتمع بقيت أحيانًا حبيسة الصور النمطية. لا يتعلق الأمر فقط بحرائق الكنائس أو التمييز في بعض الوظائف، بل في الفجوة التي تتسع كلما غابت الدولة عن تأكيد المساواة، وكلما تعمّق الإحساس بأن “القبطي” في وعي البعض ليس مواطنًا أولًا، بل مسيحيًا فقط، فالاقباط في مصر يستطيعون كتابة مجلدات عن تاريخ استهدافهم وصبرهم وثباتهم في مصر، دون طلب للانفصال أو مثلا التدخل الاجنبي..
الهجرة ليست فقط بسبب الخوف، بل أيضًا بسبب الانسداد. حين يشعر الإنسان أن صوته لا يُسمع، أن جهوده لا تُقدّر، وأن مستقبله مرهون بما لا يمكنه تغييره، يرحل. رحل الآلاف من الأطباء والمهندسين والمفكرين، تاركين خلفهم فراغًا لا يُملأ. هذه ليست مجرد هجرة أفراد، بل تفريغ صامت لذاكرة المنطقة.
ليس المطلوب خطابًا عاطفيًا ولا تصفية حساب مع الماضي. ما هو مطلوب أن نطرح السؤال بجرأة: لماذا، في أرض وُلد فيها المسيح، يُعامَل أبناؤه أحيانًا وكأنهم طارئون؟ ما الذي جعل الشرق يتنكّر لأحد أعمدته؟ ولماذا لا يُنظر للمسيحي على أنه ابن هذا التراب، لا ضيفًا فيه؟
الجواب لا يكمن فقط في سياسات الدولة، بل في وعي الشعوب. حين ينهار التعليم، وتُهمّش الثقافة، ويُفقر الخطاب العام، يصبح الاختلاف سببًا للريبة، ويُستغل الانتماء الديني لتبرير الإقصاء. المسيحي في الشرق ليس بحاجة لحماية خاصة، بل لعدالة عامة. بحاجة إلى وطن لا يسأله عن معتقده، بل يعترف بدوره، بحضوره، بجرحه.
فمسيحيو الشرق، في الحقيقة، ليسوا ضحيةً دائمة، بل شركاءٌ تكرّرت خيباتهم. ولعلّ اللحظة الآن مواتية لإعادة الاعتراف بهم لا كأقليات خائفة، بل كمكوّن أصيل، لا تستقيم البلاد من دونه.
في الاردن الحكاية مختلفة تماما، وكأنها قطعة من الجنة وضعت في محيط من النار، فالمجتمع المسيحي الاردني منصهر تماما مع محيطه إلى درجة تكاد فيها لا تستطيع التفريق "هل هذا مسيحي أم مسلم؟"، الخطاب العام متوازن، الدولة عادلة إلى درجة كبيرة، النظام وقيادته يقدّرون دوما هذا الدور، ويكاد لا يمر عيد دون زيارة ملكية هنا أو هناك.
لذلك نستطيع القول أن المجتمع المسيحي الاردني أكثر المجتمعات المسيحية في الشرق راحة واستقرار، فالمسيحي في الاردن غالبا ما يهاجر أو يتنقل لتحسين الوضع الاقتصادي، ونادرا ما يكون السبب دينيا أو نتيجة لممارسات عنصرية، هذا بسبب وعي الشعب واحتكاكه ببعضه البعض، عدل النظام وسعيه لتثبيت قيم المواطنة، وبسبب رؤية تجارب المحيط ونتائج الكره.
ففي الشرق، ليست المسيحية مجرّد ديانة، بل جذورٌ ضاربة في عمق التاريخ، وجذعٌ تفرّعت منه ملامح الحضارة.
لولا المسيحية الشرقية، لما اكتسبت هذه الأرض قيمتها الرمزية المسيحية على الخارطة الثقافية والروحية للعالم. هنا، حيث وُلد المسيح ومشى على تراب المدن، تتكلّم الأرض بلغة المحبة والغفران، وتنبض بالحكايات الأولى للإنسان والسماء.
الكنائس المعلّقة على الجبال، الأيقونات التي صمدت في وجه الحروب، الأديرة التي احتضنت الحرف والعلم، كلها شواهد حيّة على أن المسيحيين لم يكونوا زينة في الهوية، بل أحد أعمدتها.
في خريطة السياحة، تُشدّ الرحال إلى موطئ الخطوات المقدسة، إلى الأماكن التي حملت اسم الناصري وتاريخه، وإلى القرى التي لا تزال تحتفظ بملامح الإنجيل في عاداتها ووجوه أهلها. الشرق، بمعناه العميق، مسيحيّ أيضًا، ومن دون هذا الحضور، يفقد شيئًا من روحه.