لا اعرف من الذي كتب كلمات اغنية فؤاد حجازي "يا بنيه ما انا فرنجي ..حتى تحاكيني فرنجي.. ما اريد تقولي هاو ار يوي.. ولا تقولي لي .. اي لوف يو ..قولي قوك وشلونك ..شلونك وكيف الحال"
لكني اعرف جيدا اننا اصبحنا لا نعني الأسئلة التي نطرحها على من يقابلنا، فكثيرا ما سمعت البعض وهو يمطر شخصا يصادفه باسئلة لا ينتظر لها إجابة (قوك..؟ كيف حالك؟.. كيف الصحة؟.. كيف الاهل؟.. اخبارك) فالاجابات لم تعد مهمة كما كانت فقد اصبح الحب تجاريا. والعلاقات تجارية للحد الذي افرغ فيه معظم الاشياء من معانيها.
في ايام الصبا كانت حياتنا بسيطة، تنتج الجماعات غذاءها ويعرف كل واحد منا من اين يأتي الخبز والماء ويملك الجميع مهارات الطهي وجلب الماء والاهتمام بالماشية والقيام باعمال الزراعة التقليدية والتواصل الإيجابي مع الناس دون حاجة الى تدريب منهجي.
حتى الاطفال كان بامكانهم عجن الدقيق واشعال النار واعداد الخبز ولا يجد ايا منا صعوبة في جلب الماء من مصادره. كنا نتشارك مع كل من يسكن القرية في مواجهة المخاطر ونتقاسم شظف العيش ولا ينتظر احد منا الحكومات ولا الحكام لبحلوا الازمات او الحد من الفقر بل يعمل الجميع على تدبير أمورهم بالنظر الى واقعهم فلا بنوك ولا قروض ولا انتظار في طوابير الاستخدام ولا ترقيات او تجاوزات ولا غضب من ان زيد اعتدى على حق عبيد ولا تذمر.
كانت علاقة الناس بالسماء والمطر والمواسم والجيران والمحاصيل هي الأهم. فهي اهم بكثير من علاقتهم بالوزراء وبالنواب والباشوات والمدراء والمتنفذين والقائمين على المنح والتوظيف والتعينات والترقيات والعطايا والوكالات ورخص الاستثمار والاستيراد.
حضور السلطة في حياة الناس كان محدودا فالجميع يعيش حياة تحكمها الاعراف والتقاليد ويضبط ايقاعها الحلال والحرام والعيب والاخلاق. كان حضور السلطة مرتبطا بوقوع المشاجرات الكبرى وعد الاغنام وجباية الضرائب واعمال انفاذ البلاغات والانتحابات وغيرها من الانشطة التي قد تقتضي حضور الكتبة والفرسان.
في منازل اهلنا لا شيء يثير الدهشة فلكل نشاط او فعل ايقاع منضبط ولا صلات تذكر بالعالم الخارجي لذا كان قدوم الضيوف من خطار وعابرين وعودة الحجاج والعائدين من السفر والتجار مناسبات مهمة للاحتفال.
اللقاء بهؤلاء مناسبات ثمينة للتواصل والتفاعل مع العالم فهم يحملون الاخبار والسلع والحكايات ويخلخلون سكون المكان بقصص وطرائف وحكايات حول مشاهداتهم ورحلاتهم يروون الحكايات ويتلون الطرف كما قد يقدم التجار منهم بعض المواد والمستلزمات والمقتنيات التي يحب الاهالي اقتنائها.
بعض من ابناء جيلنا سمحت له الظروف ان يخرج من حدود المكان مبكرا اما في رحلات او زيارات او انتقال للسكن المؤقت في بلدات ومدن اخرى. للسفر تأثير على عقول وعواطف وتصورات الصغار الذين اتيح لهم المقارنة بين موطن وموطن، ووسط اجتماعي وآخر، وظروف وتجارب وتجربة في مكانين مختلفين
كنت واحدا من الذين اتاحت لهم الظروف ان يتنقلوا بين القرية والمدينة منذ ان كنت في الخامسة من العمر واصبحت ازور عمان مرتين في العام. في كل عطلة شتوية وصيفية كنت اخطط قبل نهاية اليوم الاخير من الفصل الأول لحجز مكان لي في إحدى السيارات الثلاثة التي يتناوب اصحابها على نقل الركاب من عيمة الى حي الطفايلة بعمان وبالعكس. وفي الصيف كانت الاسرة تسمح لي ان ازور عمان بعد انتهاء موسم الحصاد وبمعدل ثلاثة الى اربع اسابيع من أواخر الصيف.
في ذاكرتي لا زالت تفاصيل كل رحلة اتخذتها حية وكأنها كانت بالامس. يمكن ان اغمض عيناي واتذكر الطريق والركاب الذين اخذت مكاني بينهم والأحاديث التي كانت تدور ورائحة الدخان الذي كان ينفثه الركاب الذين تنازعوا على حق الجلوس على طرفي المقعد الخلفي والأمامي بحجة ان التدخين يمنحهم الحق.
كان علي ان احضر كمشة من الاخبار تبهج افراد عائلة قريبي الذي سيستقبلني حتى ولو بالغت قليلا في رواية الخبر. وكان من الضروري ان احمل معي شيئا من القرية حتى وان كان خبزا او عددا من حبات البيض البلدي او الفريك المعد بيتيا واحيانا كمية من الزيت البلدي فالهدايا شيء اساسي ولا احد يحب اليد الفارغة. في مرات عديدة سمعت الاهل ينتقدون أقرباء لنا بانهم عادوا بايادي فارغة..
ذات يوم وانا في سن العاشرة توقفت عند بوابة مخيطة في سوق منكو بعمان لبعض دقائق وكنت اتأمل القمع الفضي الذي وضعه الخياط على ابهام يده اليمنى واسأل نفسي كيف لهذا الرجل ان يقوم بعمله وفي يده هذا القمع.
اذكر اني نقلت ملاحظتي لعدد من رفاق الطفولة الذين عملت معهم في سوق الخضار وخلصنا بعد نقاش طويل صاخب الى ان هذا واق يستخدمه لتجنب وخزات الأبر وان اسمه كشتبان.