وعدتني بالحلق .. خرمت انا اذاني
د. صبري ربيحات
07-07-2025 12:51 PM
الطريقة التي حلت بها المجالس البلدية وشكلت فيها قوائم لجان ادارتها ادخلت الكثيرين منا في مزاج للترقب والانتظار والتخمين عما تفكر به الحكومة وما تنوي القيام به لتعديل تشريعات الإدارة المحلية.
لم تعد بلديات اليوم تشبه بلديات الامس وربما ان الاختلاط بين مفهوم الزعامة والخدمة لدى من يتولون رئاسة البلديات مسؤول عن التغير الذي نلمسه في كثير من بلدياتنا.
قبل اقل من عام تحدث وزير الإدارة المحلية الاسبق عن وجود فساد في عدد من البلديات ومن وقت لاخر تظهر شكاوى للسكان على مجالس بلدياتهم موضوعها المحاباة والتمييز وتغيير الاولويات ونقص الخدمة.
لم ير دليوان المجالي وعبدالله العوران وحامد الشراري وحمدي ابو السمن وادريس التل وعبدالله بصبوص في موقع رئيس البلدية إلا نافذة للاشراف والقيادة والتوجيه لمقدمي الخدمات، ولم ينزع ايا منهم لتسخير الموقع لكسب المكانة او تحسين الاوضاع او التحكم في مصائر الناس، فقد اضاف كل واحد منهم للموقع واعطى له هيبة وشهرة واحتراما اكثر مما اخذ منه.
اليوم ومع الاعتبار للفارق بين المراحل الزمنية ومتطلباتها تعاني الكثير من بلدياتنا مشاكل عديدة تجعل مساحة الرضا عن اداءها اقل مما كانت عليه البلديات في أول عهدها بالرغم من قلة مواردها ومحدودية الخدمات المطلوبة منها.
على امتداد الفضاء الاردني غالبا ما تنتهي الانتخابات بغضب واحباط ما يقارب نصف السكان الامر الذي يولد الانقسام والنزاع بين كتل ومجموعات السكان التي اتخذت مواقفها من المرشحين على اسس عشائرية وتحالفات وولاءات لا تمت بصلة الى الكفاءة والنزاهة والاقتدار.
صحيح أن المجالس البلدية كانت ولا تزال احد اهم اشكال التعبير عن الارادة السياسية للمواطن لكن الارادة الفردية مغيبة لحساب الارادة الجماعية او التأثير الذي قد تمارسه السلطات الامنية والتوجيه الذي يقوم به الحكام الاداريون.
بالنسبة للفرد لا تزال المدن والقرى واماكن السكن هي العناوين والنقاط التي يلتقي فيها الافراد مع الدولة فعلى فضائتها يتبلور شكل ونوع العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويستطيع الفرد ان يقدر حجم ونوعية وشمول الخدمات وكفاءة الأساليب وعدالة الأثمان والضرائب التي يدفعها مقابل هذه الخدمات.
لقد انشأت البلديات كأول تنظيم اهلي للاستجابة لكل ما يحتاجه الفرد "المواطن" من خدمات ضرورية للعيش المستقر ومنع التصادم مع الغير او الاخلال بالحقوق الخاصة للافراد والحيلولة دون إساءة الاستخدام للمرافق العامة.
فالبلديات ترسم شكل الفضاء العام، وحدود الانتفاع من المرافق، ومدى رحابة المدى الفاصل بين العام والخاص، واشكال وانواع النشاطات المناسبة لكل حيز من الفضاء؛ بما في ذلك الشوارع والساحات والأسواق والارتفاعات، وهي التي تمنح اذون الاشغال، وتمد اجزاء الفضاء بالماء والطاقة وتحدد مجاري الصرف الصحي وتديم نظافة المكان وتحافظ على البيئة من الملوثات وتراقب استخدام السكان للمرافق وسلامة ما يقدم لهم من أغذية وتيسر الانتقال من نقطة الى اخرى وتتصدى لكل العقبات والعوائق التي تعترض السير وتحافظ على مستوى مناسب من السكينة والطمأنينة والترفيه وتحد من تأثير مصادر الازعاج واحتمال الكوارث والازمات وتحرص على توزيع خدماتها بشكل عادل يتماشى مع المعايير والموارد ويرضى عنه السكان.
بالامس صدر قرار مجلس الوزراء بحل المجالس البلدية واللامركزية وقد تلاه صدور قرارات بتعيين رؤساء واعضاء اللجان المكلفة بإدارة البلديات للفترة التي تفصل بين موعد الحل وظهور نتائج الانتخابات التي لا يوجد موعد واضح لموعد اجراءها.
نعرف ان هذا القرار سيوفر متسعا كاف من الوقت لمراجعة القانون الحالي في ضوء رؤية التحديث والإصلاح السياسي وتقييم جدوى تجربة اللامركزية من حيث فعاليتها وضرورتها ومدى نجاعة تطبيق المفاهيم والمبادئ التي استخدمت كمبررات لايجادها.
الامر الذي استوقفني فيما جرى حديث معالي وزير الادارة المحلية عن أن الحكومة اختارت رؤساء اللجان من غير ابناء البلديات المعنية لكي يكون رئيس اللجنة على مسافة واحدة من الاهالي.
في مثل هذا التصريح تلميح بأن لدى من يتولون مواقع الخدمة العامة والمسؤولية ميل إلى استخدام سلطة الموقع لخدمة أقاربهم وجيرانهم وزبائنهم ونعرف تماما ان ذلك يجري في وضح النهار وعلى رؤوس الاشهاد، لكن المدهش ان نستعيض عن ايجاد برامج لتكريس النزاهة وتعزيز الموضوعية باستقدام أشخاص من خارج البلديات ليرأسوا لجان شكلت لاستمرار عمل مجالس الادارة المحلية المنتخبة (البلديات).
الخطوة التي اقدمت عليها الحكومة تتضمن الشيء وضده. ففي الأصل وجدت المجالس المحلية كتنظيم اهلي يديره الاهالي من خلال هيئة "مجلس" منتخبة على مبدأ ان "اهل مكة ادرى بشعابها" فابناء المدن والبلدات اقدر على التواصل مع مجتمعهم المحلي والبحث فيما يهمهم وقيادة مجتمعهم المحلي لتحديد الاولويات وترتيبها وتنفيذها تدريجيا بما يتفق والموارد المتاحة.
الفلسفة التي يستند لها الاصلاح او التحديث السياسي تقوم على مبدأ إشراك الناس في إدارة شؤونهم وتشجيعهم على استيعاب قيم النزاهة والموضوعية والشفافية. وفي ذلك تعزيز لشعور الاهالي بمشاركتك في صنع القرار وتسويقه للمنتفعين وبعث روح الثقة والاستقرار واستعدادهم لتحمل مسؤولية ما قد يترتب على ذلك.
لا افهم المقصود بأن يكون المسؤول على مسافة واحدة من الجميع ولا احبذ سماعها من مسؤول فرجل الخدمة العامة موجود في موقعه ليفكر ويقرر ويتحمل المسؤولية بشجاعة بعيدا عن الحياد المقيت الذي لا يعبر عن شيء إلا عن التواكل وإبراء الذمة وإخلاء النفس من المسؤولية.
اعرف تماما ان معالي وزير الادارة المحلية الحالي رجل يعي كل هذه التفاصيل فهو صاحب قرار خلفه سجل حافل من الخدمة في مجالات الثقافة والبلديات وإدارة المدن واعرف انه لا يتردد في اتخاذ ما يحتاج له الموقف من قرار لكن المطلوب اليوم منا هو التخلص من هذه الكليشيهات التي تسربت الى لغة المسؤولين واصبح الكثير منا يستخدمها لتلافي النقد والحماية من الاتهامات والافتراءت التي يمارسها البعض ممن يحاولون الابتزاز كلما وجدوا فرصة لذلك..
قد يكون لتعيين رؤساء لجان البلديات من غير اهلها تبريرات لدى الحكومة لكنه قرار يتنافى مع روح قانون الحكم المحلي ويتضمن قدرا من التشكيك في قدرة ابناء مجتمعاتنا المحلية على خدمة مجتمعاتهم بنزاهة تتجاوز حسابات القرابة والولاءات العشائرية والمحسوبيات.
قرار الحكومة هذا يذكرني بالجهود الكبيرة المضنية التي تبذلها الدولة لفتح وتجهيز وتعبيد وتهيئة الشوارع للمرور الآمن المريح وتشويه كل هذا الإنجاز بزرع مئات المطبات بأشكال وأحجام وارتفاعات لكي لا يسرع السواقين ويرتكبون الحوادث.. عمل الشيء وعكسه يبطل القيمة ويلغي الفائدة ويشوه كل المفاهيم التي يرمي لها الاصلاح..
انا لا انكر وجود التحيز والتمييز في سلوك من يديرون مرافق الخدمات لكن الحل ليس بتعيين أشخاص من الخارج بل بدعم وتقديم النماذج القدرة النزاهة من داخل المجتمع فالناس بحاجة لان يروا ان بين ظهرانيهم نماذج نظيفة نزيهة تؤمن بواجبها ومستعدة للخدمة العامة وليس لرسائل صارخة تقول بإننا استبعدنا تعيين ايا من ابناء المجتمع المحلي ليخدم داخله خوفا من ان لا يكون موضوعيا وعادلا.