facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




من إسكوبار إلى نتنياهو


د. محمود الشغنوبي
07-07-2025 03:23 PM

قد يبدو الربط بين اسمين، أحدهما زعيم مافيا دموي من كولومبيا، والآخر رئيس حكومة لما يُفترض أنه "الواحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، أمرًا صادمًا، وربما حتى مجحفًا في نظر بعض المهووسين بتجميل القبح وتلميع الجريمة حين تُرتكب بربطة عنق، لكن الوقائع التي تتكشّف يومًا بعد يوم تجعل من هذا الربط ضرورة أدبية وواجبًا أخلاقيًا قبل أن يكون مجرد تشبيه عابر.

بابلو إسكوبار، تاجر الكوكايين وجرّاحَ الدولةِ بلا تخدير، الذي تجاوز نفوذه حدود الخيال، لم يكن مجرد مجرم، بل كان منظومة كاملة : دولة ظلّ داخل الدولة، يشتري بها القضاة، ويعيّن بها مسؤولي الشرطة، ويغتال الصحفيين، ويزرع الرعب في الشوارع والبيوت. لم يُخفِ جرائمه، ولم يرتدِ يومًا قناع الأخلاق. كان صريحًا في إجرامه: إما المال أو الرصاص.

وكان واضحًا في أهدافه: السلطة والثروة بأي ثمن. ومن ميدلين، بنى إمبراطوريته على الجثث، لكنه ظلَّ، على الرغم من كل وحشيته، معزولًا، ملاحقًا، منبوذًا من العالم، حتى سقط مقتولًا فوق سطح بيت ضيّق، يطارده جنود الدولة التي أراد شراؤها.

أما بنيامين نتنياهو، الرجل الذي عاش أكثر من حياة سياسية، وأفلت من أكثر من تهمة، فهو صورة أخرى من نفس المبدأ، لكنه نسخة محدثة، مطوّرة، ترتدي قميصًا ناعمًا وتستخدم قاموسًا ناعمًا.

إسكوبار كان يقول "بلاتا أو بلومو"- أي المال أو الرصاص- بينما نتنياهو يقول: "أمن إسرائيل أو نار السماء"، شعارٌ يختزلُ البشرَ إلى رمادٍ في معادلةِ القوة، يفرض شروطه على العالم تحت مظلة الدفاع عن النفس، ويتنقّل بين العواصم الغربية محمولًا على أكتاف آلة إعلامية تحوّل المعتدي إلى ضحية، والضحية إلى تهديد وجودي. كلاهما فهم اللعبة جيدًا، واستخدم أدواته ببراعة. إسكوبار موّل الحملات الانتخابية في بلاده ليضمن الحماية، ونتنياهو يستخدم فزّاعة "الهولوكوست الجديد" ليُبقي الغرب رهينة ابتزازه العاطفي.

إسكوبار دفع للقضاة كي يُغلقوا الملفات، ونتنياهو يعدّل القوانين كي تُغلق قضاياه. الفارق أن الأول كان يُجرّم دوليًا، أما الثاني فالسجادةُ الحمراءُ تحتَ قدميه تُنسجُ من أكفانِ الغزّيين.

إسكوبار كان يعطي الفقراء المال والطعام ويبني لهم أحياءً متواضعة ليكسب قلوبهم ويُجمّل سمعته، أما نتنياهو فيُحاصر الفقراء، ويقصفهم من الجو، ويمنع عنهم الماء والدواء، ثم يخرج ليُحدّثنا عن "أنسنة الحرب"، و"دقّة الغارات"، و"أخلاقيات الجيش الأكثر طُهرًا في العالم". إسكوبار فجّر الطائرات واغتال المرشحين، ونتنياهو يهدم الأبراج فوق رؤوس ساكنيها، ويغتال الأطفال وهم نيام، ثم يرفع إصبعه مهددًا: "نحن نحارب الإرهاب". كلاهما يقتل، لكن أحدهما كان يعتذر أو يختفي، والآخر يُبرّر ويصرخ ويتهم من يعارضه بـ"معاداة السامية".

وإذا كان إسكوبار قد عاش مطاردًا حتى لحظة موته، فإن نتنياهو يعيش محميًّا من كل مساءلة، يتحصّن بجدران الأمم المتحدة، وبتواطؤ الحلفاء، وبتشظي الخصوم. يجلس على مقعد السلطة رغم قضايا الفساد التي تطوّقه من كل جانب، يراوغ، ويهدد، ويوقّع صفقات السلاح، ويصدّر "أجندة الرعب" على أنها مشروع دولة. إعلامه يطارد أيّ صوت ناقد، يجرّم أيّ وصف حقيقي، وينقضّ على أيّ صحفي يرى الأطفال تحت الأنقاض قبل أن يرى بيانات الجيش. لقد أصبح القتل مشروعًا إذا ارتدى علمًا معينًا، وباتت المجازر أحداثًا هامشية إذا وقعت في رقعة جغرافية لا ترضى عنها واشنطن.

وإن كانت نهاية إسكوبار قد صُوّرت على سطح بيت مهجور، فإن نهاية نتنياهو ما زالت مؤجلة، متروكة لحسابات القوة، وللمجتمع الدولي الذي أصابه العمى الأخلاقي والتكلس السياسي. التاريخ، كما نعلم، لا يُمحى. صحيح أنه يُكتب بأقلام المنتصرين، لكنه لا ينسى. وكما صارت صورة إسكوبار رمزًا لكل طاغية يشتري مصيره بالدم، فإن صورة نتنياهو ستتحول إلى أيقونة لعصر جرى فيه تمجيد القتلة، وتبرير المجازر، وتحويل الجلاّد إلى ضيف دائم على الشاشات.

المقارنة هنا ليست اعتباطية، ولا هي ساذجة، بل مقصودة، متعمدة، فهي كشفٌ لهشاشة الحدود الأخلاقية في السياسة الدولية وكسرٌ متعمّدٌ لصنمِ النفاقِ الدولي، لأن القتل حين يصبح ممنهجًا، ومقبولًا، ومدعومًا، يتحول إلى مؤسسة. الفرق الوحيد أن إسكوبار كان مؤسسة من تحت الطاولة، ونتنياهو يدير مؤسسته من فوقها، وأمام عيون العالم. وما بين رصاصةِ إسكوبارَ وصاروخِ نتنياهو، تتشابهُ الدماءُ وتختلفُ الروايات. ونحن "نحن فقط" من نُجبر على التصفيق للقاتل إذا نال براءة من محكمة لا تسمع سوى جهة واحدة من العالم.

فلنسمِّ الأشياء بأسمائها: ما فعله إسكوبار تحت عباءة الجريمة، يفعله نتنياهو تحت عباءة الدولة المخصّصةِ لصبِّ الدمِ في قوالبَ قانونية. وما كان يُسمّى "إرهابًا منظمًا" صار اليوم "أمنًا قوميًّا". وما كانت تجرّمه البشرية بالأمس، تصفّق له اليوم ما دام القاتل يرتدي بدلة رسمية ويخطب بلغة إنجليزية فصيحة، والقتلُ صارَ فنًّا راقيًا إذا ارتدى علمًا أزرقَ ونجمةً بيضاء.

نحن في زمن تُوزن فيه الجرائم بالهوية، لا بالفعل. وتُقاس فيه الكارثة بعدد الكاميرات لا عدد القتلى. وبينما يسقط أطفال غزة بلا ضجيج، يرتفع صوت القتلة معلنًا: "نحن حماة الحضارة". أي حضارة هذه التي تغذي نفسها بجماجم الأبرياء؟ وأي عدالة تلك التي تُفرّق بين القتلة بحسب جواز سفرهم؟.

من إسكوبار إلى نتنياهو… لم يتغيّر شيء سوى اللباس ولونُ الغيمةِ الحاملةِ للموت، والضحايا هم أنفسهم، يُساقون كل يوم إلى المذبح… ونحن نصفّق، أو نصمت… أو نموت مرتين.
وسلامتكم..





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :