يتدفق كل عام من الجامعات الأردنية عشرات الآلاف من الخريجين، في مشهد يتكرر حتى بات أشبه بالطوفان الصامت: أفواج شابة تحمل شهاداتها بكثير من الأمل، وتجد نفسها في مواجهة سوق عمل محدود الأفق، قاس في معاييره، مثقل بتشوهات الاقتصاد ومحدودية فرص التوظيف في القطاعين العام والخاص معاً. فثمة معادلة يصعب فك شيفرتها: أعداد هائلة من الخريجين، مقابل مقاعد معدودة في دوائر الدولة أو وظائف القطاع الخاص، وكأن الأبواب تفتح فقط للانتظار الطويل أو للرحيل نحو المجهول.
وتعكس هذه المعضلة أزمة في السياسات الاقتصادية، ونزعة مجتمعية متجذرة؛ فالعائلة الأردنية ما تزال ترى في التعليم الجامعي، بلا استثناء تقريباً، طوق نجاة للابن أو الابنة، وكأن الشهادة الجامعية صك أمان اجتماعي أو جواز عبور نحو مستقبل أكثر استقراراً، وهو أمر محمود في جانب من جوانبه، ومشروع أيضاً في ضرورة التعلم لمواجهة ظروف الحياة بوعي واستنارة. تغذّي هذه النزعة المؤسسات الجامعية نفسها، التي توسّعت أفقيًا بعدد الجامعات والبرامج الأكاديمية، فغدا التعليم العالي فرصة متاحة للجميع تقريبًا، حتى تجاوزت نسب الالتحاق بالجامعات المعدلات العالمية، بينما ظلّ سوق العمل يراوح مكانه، أو يتحرك في اتجاهات لا تلبي هذه الفائض البشري المتعلم.
ومع ذلك، فقد أدركت السياسات الرسمية مؤخراً خطورة هذا الاختلال، فخطت وزارة التربية والتعليم خطوات محسوبة بإعادة تشعيب الثانوية العامة إلى مسارات متنوعة، أدخلت فيها خيارات ذات طابع مهني وتقني وسوقي، عسى أن يتحول بعض مسار الأفواج المقبلة من الجامعة إلى معاهد التدريب والتعليم التقني والفني، أو إلى تخصصات أكثر ارتباطاً بحاجات السوق، أملاً في إعادة التوازن بين المخرجات والاحتياجات الفعلية للاقتصاد الوطني.
ورغم ذلك، يبقى سؤال الاستيعاب ملحًا: هل يستطيع القطاعان العام والخاص، حتى بعد كل هذه التحولات، أن يحتويا هذه الأعداد المتزايدة؟ واقع الحال يشير إلى محدودية الطاقة الاستيعابية، في ظل معدلات نمو اقتصادي متباطئة، واعتماد طويل على التوظيف الحكومي كخيار شبه أوحد، في مجتمع يغلب عليه الطابع الريعي، بينما القطاع الخاص، رغم بعض قصص النجاح، ما زال محدود الفرص وغير قادر على قيادة النهضة الاقتصادية المنشودة.
لقد أسهم كل ذلك في ترسيخ قصة بطالة متجذرة، وهي ثمرة عقود من التراكمات، حيث أصبح كثير من الشباب يختبرون مرارة الانتظار، أو يقبلون بوظائف لا توازي تطلعاتهم أو تخصصاتهم، أو يهاجرون بأحلامهم ومهاراتهم إلى أسواق خارجية. هكذا يتبدى المشهد: عائلات تواصل الاستثمار في التعليم كقيمة اجتماعية لا غنى عنها، وجامعات تفيض بالخريجين كل عام، وسوق عمل يزداد ضيقًا، وبطالة تترسخ في الوعي الجمعي كمفارقة وجودية تتطلب حلولًا جذرية بعيدة عن المسكنات الآنية.
ولعل مفتاح الحل يكمن في إعادة صياغة العلاقة بين التعليم وسوق العمل، والجرأة في تعديل السياسات، وتشجيع الابتكار، وتحفيز ريادة الأعمال، وخلق بيئة اقتصادية تستوعب الطاقات الشابة وتعيد الأمل لجيل بأكمله لم يعد يحتمل المزيد من الانتظار.