facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




وقفة على هامش تصريحات التعليم العالي وردود الفعل


أ.د سلطان المعاني
10-07-2025 11:57 AM

تقتضي القراءة البنيوية لأدبيات التعليم والتعليم العالي أن نعيد النظر في المشهد بوصفه منظومة تتداخل فيها البنى اللغوية والمعرفية والاجتماعية، بحيث يغدو الخطاب الأكاديمي انعكاسًا لصراع عميق بين قيم التلقين والإنتاج، وبين سلطان المركز وتطلعات الهامش، وبين استدعاء التراث ومجاراة المستقبل. إن تفحص هذه المنظومة يكشف عن مفارقة أصيلة: فالمؤسسة التعليمية، التي يُفترض بها أن تكون محرّكًا للنهضة وفضاءً للتجديد، كثيرًا ما تنزلق إلى ممارسة أدوارها بوصفها حارسة للماضي أو متقبلة لسطوة الخارج، مترددة بين اجترار الأنماط القديمة والارتهان لمقاييس التصنيفات العالمية. ويظهر في هذا قلق وانشغال متجذر بمسألة السيادة المعرفية وهاجس الاستقلال عن المركزيات الأكاديمية العابرة للحدود، حيث تتبدى اللغة العربية، وسيلة تواصل وبنية مؤسسة للهوية ومختبر لتوليد التجديد، وفي الوقت ذاته مسرح لصراع رمزي حول من يملك الحق في تمثيل المعرفة وإنتاجها.

تتجلى إشكالية الطالب الجامعي في هذه السياقات، بوصفه متلقيًا سلبيًا، وباعتباره ممثلاً لتحولات المجتمع، وضحية لبنية التعليم التي لم تُشْرِكْه بعدُ في إنتاج الفكرة ولا أتاحت له الحضور الفاعل في صنع السياسات التعليمية أو مساءلة بنيتها. فالجامعة، كما تشير الحال، تُطالَب بأن تتحول من ناقل للمعرفة إلى مولّد لها، وأن تعيد النظر في علاقتها مع الطالب، بوصفه طرفًا فاعلاً، وشريكًا في النقد والتوليد والابتكار. وليس غريبًا أن نجد اشتباكًا نقديًا مع فكرة التصنيفات الأكاديمية، إذ تتجلى الحاجة إلى معايير تنبع من خصوصيتنا الثقافية والمعرفية، لا تلك التي تفرضها منظومات عالمية قد لا تعترف بوجعنا التاريخي ولا بأحلامنا الصغيرة المنسية.

هذا الجدل البنيوي العميق يدفع إلى ضرورة تفكيك البنى التقليدية التي تنتج الفكر الجامد حول التعليم، واستبدالها بنظرة تتعاطى مع الجامعة كمختبر لجدل الأفكار وكمحرك للنهضة المجتمعية؛ وكمجال حيّ لتفاعل الإنسان مع أسئلته وممكناته، بعيدًا عن منطق الاجترار والانقياد. تتأسس هنا الحاجة لإعادة الاعتبار للغة المحلية بوصفها حاملًا للمعرفة، وللتعليم بوصفه مشروعًا للتحرير من سطوة الخارج لا تكريسًا لها، وللطالب بوصفه مركزًا للمعرفة لا مجرد رقم في سجل الحضور. إن هذا النقد البنيوي لا يدعو إلى قطيعة مع العالم، ولكن إلى تأسيس علاقة جديدة معه، علاقة تفاوض وندية، تُعيد رسم موقع الجامعة المحلية في منظومة المعرفة الإنسانية، وتمنح التعليم بُعدًا تحويليًا يعيد للإنسان مكانته بوصفه صانعًا للمعرفة لا مستهلكًا لها.

وبذلك تتحول الرؤية من اجترار خطاب الإصلاح إلى مساءلة عميقة للبنية ذاتها، حيث يُعاد توجيه البوصلة من سؤال: "كيف نواكب؟" إلى سؤال "كيف نؤسس؟"، فلا يبقى التعليم مجرد وسيلة للتماهي مع الآخر، بل يصبح طريقًا لاستعادة الفاعلية وبناء الذات.

حين يتحوّل سؤال التعليم من "كيف نواكب؟" إلى "كيف نؤسس؟"، ينقلب التصوّر من اللهاث وراء نموذج خارجي إلى إرادة بناء مشروع أصيل يستمد ضروراته من الداخل لا من الخارج. ذلك أن المواكبة غالبًا ما تُفضي إلى حالة تقليد وتبنٍّ غير نقدي لمفاهيم أو مناهج أو سياسات تُنتجها مراكز القوة المعرفية العالمية، فينحصر جهدنا في ترميم فجوة اللحاق، ونظل أسيري مشهد لا نصنعه، فنجتره ونستهلكه، ونظل مشغولين بمطابقة معايير لم نصغها نحن، فتغيب السيادة عن سؤال المعرفة. أما التأسيس فهو فعل يعيد التعليم إلى حضن الذات، حيث يُعاد النظر في الغاية والوظيفة، ويغدو التعليم مجالاً مفتوحًا للاجتهاد والسؤال والابتكار، لا حقلًا للاستهلاك أو التكرار. في التأسيس يتجاوز التعليم كونه استجابة قسرية لضغوط السوق أو التصنيفات، ويصبح فعلًا واعيًا لاستنبات المعنى من التربة المحلية، وابتكار لغة تتسع لهموم الناس وأحلامهم وممكناتهم. فالفعل التأسيسي ينطلق من مساءلة البنية نفسها، من شجاعة الاعتراف بأن المشكلة في النسق لا في التفاصيل، وفي شروط إنتاج المعرفة لا في وسائل نقلها فقط. وعندها فقط، يغدو التعليم فعل مقاومة للذوبان في الآخر، ورحلة نحو بناء الذات القادرة على أن تقول كلمتها، لا أن تردد ما يُملى عليها. في هذا الأفق، ينفتح التعليم على إمكانياته الكبرى، متحوّلًا من أداة للتكيّف مع عالم لا نصنعه إلى مسار لاستعادة الفاعلية وإعادة تعريف موقعنا في العالم، حيث نصبح شركاء في صناعة المعنى لا مجرّد ظلال على جدران الآخرين.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :