ما بعد التصريح: التعليم العالي بين الاعتراف والتصحيح
د. أحمد غندور القرعان
10-07-2025 07:40 PM
كم تمنيت أن أسمع مثل هذا التصريح، وكم أثلج صدري أن يأتي بهذه الصراحة من معالي وزير التعليم العالي والبحث العلمي الدكتور عزمي محافظة. قال ما كنت أتمنى أن يُقال، بل ما كان يجب أن يُقال منذ سنوات.
قضيت أكثر من عشرين عامًا في التعليم خارج الأردن، وكنت دائمًا أفتخر بأن نظامنا الجامعي يحمل سمعة قوية. لكن عند العودة والاحتكاك بالواقع، صدمت بفجوة واضحة بين ما هو معلن وما هو فعلي. الصورة التي كنت أدافع عنها لم تكن كاملة، بل كانت تعكس طموحًا أكثر من واقع.
تصريح الوزير كما ورد في صحيفة "عمون" لم يكن مفاجئًا، بل تأكيدًا رسميًا لما نعرفه في كلياتنا ومجالسنا وممارساتنا اليومية. التحديات التي أشار إليها الوزير واقعية: دفع المال لتحسين التصنيفات، التعيينات الشكلية، المؤتمرات الضعيفة، والنشر الذي يفتقر للجودة. لكن ما لم يُذكر في التصريح هو أن هذه الممارسات لم تعد استثناء، بل أصبحت في بعض الحالات “ثقافة مؤسسية” لا تُستغرب ولا تُدان.
يُضاف إلى ذلك، ممارسات أخرى تُتداول بصوت منخفض داخل الحرم الجامعي: مشاريع تخرج تُباع، رسائل دراسات عليا تُكتب لمن يدفع، أبحاث تُنتج آليًا دون مراجعة، وأحيانًا ترقيات مبنية على أوراق بلا قيمة أكاديمية حقيقية. المؤلم أكثر أن هذه المظاهر أصبحت مألوفة إلى حد التقبل.
وسط هذا، يُعاد تكرار الحديث عن "السمعة الأكاديمية". نعم، للسمعة أهميتها، ولكنها لا تُبنى بالتجميل. بل تُبنى من الداخل، بجودة التعليم، وصدق البحث، واستقامة الممارسة الأكاديمية. جذب الطالب الأجنبي لا يُعد إنجازًا إذا لم يُقابله تعليم حقيقي. بل من الأجدى أن نكون حذرين في الاستقطاب على أن نمنح شهادة غير مستحقة تسيء للجامعة والبلد.
الاعتراف الذي صدر عن الوزير خطوة شجاعة، لكنها بداية فقط. ما نحتاجه اليوم هو تشكيل هيئة وطنية مستقلة للنزاهة الأكاديمية ومكافحة الفساد الأكاديمي، تمتلك صلاحيات المراقبة والتدقيق والتقييم العلني، وتخضع لها جميع مؤسسات التعليم العالي دون استثناء.
نحتاج أيضًا إلى:
- مراجعة فورية لسياسات التصنيف والنشر العلمي وربطها بجودة المخرجات لا عددها.
- ضبط الصرف على التصنيفات وربطه بمعايير شفافة ومعتمدة.
- ربط الاعتماد والدعم الحكومي بمؤشرات حقيقية، مثل نزاهة الأبحاث، كفاءة الخريجين، وجودة التدريس.
- بناء بيئة بحثية أخلاقية تبدأ من الطالب وتنتهي عند مجلس الأمناء.
لسنا في موقع التشكيك، ولا نكتب من باب التهجم. نكتب لأننا مؤمنون أن التعليم ما زال هو رصيد الأردن الأول. نكتب لأن لدينا كفاءات قادرة على الإصلاح، ومؤسسات لا تزال تنبض بالعلم والضمير.
ما حدث ليس نهاية الطريق، بل بداية مراجعة حقيقية. وأي محاولة للسكوت بعد الآن، هي تواطؤ غير مباشر مع واقع لا يليق بالأردن ولا بتاريخه الأكاديمي.
فهل نملك الشجاعة لنكمل ما بدأه الوزير؟
وهل نتحول من مرحلة الاعتراف إلى مرحلة التصحيح الفعلي؟
الفرصة متاحة، لكن الوقت يضيق.